سخنين، البلدة الجليلية التي احتضنت التاريخ، وقدّمت الشهداء، وحملت الهوية الفلسطينية في قلبها، لم تكن يومًا مجرد اسم على خارطة. لقد أصبحت رمزًا، وجسرًا بين الماضي والحاضر، بين الجرح والأمل. من هنا لم يكن غريبًا أن تُلهم الشعراء، وأن تتحول إلى أنشودة متجددة في قصائدهم. ومن أبرز الأصوات التي عبّرت عنها: الشاعر منيب مخول، والشاعر خازن عبود، كلّ منهما بطريقته، وكلّ منهما من زاويته، لكنهما يلتقيان عند نقطة واحدة: أن سخنين هي قلبٌ نابض لا يتوقف عن الخفقان.
منيب مخول: الحنين سؤال لا ينطفئ
في قصيدته “سخنين ماذا فيك يا سخنين ،وعلام يجذبني إليك حنين"يفتتح منيب مخول أبياته بسؤال بلاغي يفيض عاطفة:
“ماذا فيك يا سخنين؟ وعلامَ يجذبني إليك حنين؟”
هذا السؤال ليس بحثًا عن جواب منطقي، بل هو انسياب شعوري يختصر تجربة الحب والارتباط بالأرض. سخنين في نظره ليست مكانًا فقط، بل كائن حيّ يتنفس، يجذب أبناءه إليه بقوة لا تُقاوَم.
القصيدة مكتوبة بروح الغناء، بإيقاع موسيقي حزين-حنون، تجعل المتلقي يعيش حالة وجدانية مكثفة. مخول يكرّس صورة البلدة كذاكرة جمعية، حيث تختلط الطبيعة بالوجدان، والحاضر بالماضي، ليبقى الحنين بوابة العودة الدائمة إلى الجذور.
خازن عبود: من الحنين إلى البناء
على النقيض من الحضور الغنائي العاطفي عند منيب مخول، يقدّم الشاعر خازن عبود في قصيدته “فلنبني سخنين” صوتًا مختلفًا، أقرب إلى الخطاب الجماعي. عبود لا يكتفي بالحب والحنين، بل يحوّلهما إلى دعوة للعمل:
“فلنبنها حبًّا وإيمانًا، فلنبنها بالعرق والجهد سكنًا وكيانًا.”
إنه نداء يتجاوز حدود المشاعر الفردية ليصل إلى الفعل الجماعي. البناء هنا ليس ماديًا فحسب، بل هو بناء الهوية والذاكرة والكرامة. عبود يريد لسخنين أن تكون مشروعًا حيًا، يشارك فيه الشباب والشيوخ معًا، فتتحول القصيدة إلى فعل مقاومة إيجابي يربط الشعر بالفعل.
التقاء الاختلاف: الحنين والفعل
حين نقارن بين القصيدتين، نجد أن منيب مخول يضعنا أمام تجربة الحنين الفردي، حيث العاطفة هي المركز، والقصيدة أشبه بمرآة نفسية لوجدان ابن البلدة. في المقابل، يقدّم خازن عبود خطابًا عمليًا جماعيًا، يحوّل الحنين إلى أداة بناء، ويجعل من القصيدة مشروعًا للمستقبل.
• عند مخول: الحنين قيمة روحية، وذاكرة تحفظ المكان.
• عند عبود: الحنين يتحوّل إلى فعل، إلى حركة، إلى بناء.
• عند الأول: سخنين صورة في القلب.
• عند الثاني: سخنين ورشة حياة تُبنى بالحب والإيمان.
سخنين كرمز ثقافي وجماعي
كلا الشاعرين، على اختلاف تجربتهما، يجعلان من سخنين رمزًا يتجاوز حدود الجغرافيا. فهي عندهما ليست فقط بلدة فلسطينية في الجليل، بل وطن مصغر، ومرآة لهوية شعب بأكمله. في قصائدهما نلمس كيف يتحول الشعر إلى مقاومة ثقافية، يحفظ الذاكرة ويصون الانتماء، ويمنح الناس لغة مشتركة يتقاسمونها في لحظات الفرح والحزن.
البعد الوطني والتاريخي
سخنين ليست مجرد بلدة جميلة في الجليل، بل كانت شاهدة على الأحداث الكبرى في التاريخ الفلسطيني الحديث. ففي يوم الأرض 1976، برزت المدينة كرمز للصمود والمقاومة الشعبية، حين نزل أهلها إلى الشوارع للدفاع عن حقوقهم وأراضيهم، مسجلين لحظة فارقة في الذاكرة الفلسطينية.
هذا البعد الوطني يضيف معنى إضافيًا لشاعري سخنين: منيب مخول الذي يغني الحنين والارتباط العاطفي بالأرض، وخازن عبود الذي يدعو إلى البناء والعمل. فالقصيدتان، بكل ما تحمله من حب وانتماء، تتماهى مع روح المدينة التي رفضت الانكسار، وواصلت الوقوف صامدة في مواجهة التحديات، محافظةً على هويتها وكرامتها.
الخاتمة
منيب مخول يسأل: “ماذا فيك يا سخنين؟”، في حين يجيب خازن عبود: “فلنبني سخنين.” وبين السؤال والجواب تتجسد رحلة مدينة صنعت حضورها في الشعر كما في الواقع، مدينة تتجدّد في القلوب كما تتجدّد في الحياة اليومية لأهلها.
الشعر هنا يصبح شهادة على المكان، وعنوانًا للانتماء الوطني، ودعوة للأجيال القادمة للحفاظ على إرث سخنين، ليظل الحنين حاضرًا، والعمل مستمرًا، والذاكرة حيّة في قلوب الناس كما كانت على مدار التاريخ.
[email protected]



