دعت شخصيات فلسطينية إلى بلورة إستراتيجية وطنية شاملة تنطلق من تحديد الخيار الفلسطيني المفضل في ضوء سيناريوهات العدوان الإسرائيلي المتصاعد على الشعب الفلسطيني ووجوده في قطاع غزة والضفة الغربية، وما يجري تداوله من تصورات لإدارة الحكم في قطاع غزة على نحو مضاد لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإدارة شؤونه بنفسه.
وأكدت هذه الشخصيات على الحاجة الملحة لتشكيل خلية فلسطينية تضم خبراء ومختصين في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدراسة سيناريوهات ومسارات حرب الإبادة والتدمير والتهجير القسري التي تشنها دولة الاحتلال بالشراكة مع الإدارة الأميركية، واقتراح السياسات الكفيلة بمواجهة السيناريوهات الأشد خطورة وبناء القدرة على سيناريو الصمود والتصدي لأهداف العدوان استنادا إلى إستراتيجية شاملة تقودها قيادة فلسطينية موحدة.
وثمنوا الجهود غير الرسمية التي تنخرط فيها مراكز التفكير والبحث لدراسة هذه السيناريوهات واقتراح السياسات في ظل استمرار التقصير الرسمي عن الاضطلاع بهذه المهمة الحيوية رغم اقتراب الذكرى السنوية الأولى لبدء حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة. واعتبروا أن بلورة إستراتيجية وطنية موحدة مهمة ملحة تتطلب التوافق أولا على التئام وانتظام عمل الإطار القيادي المؤقت، مع توسيعه ليضم ممثلين عن المنظمات الأهلية والقطاع الخاص والمستقلين والمرأة والشباب، إلى حين إجراء الانتخابات وتشكيل مجلس وطني جديد، وثانيا الشروع الفوري في تشكيل حكومة وفاق وطني في الضفة الغربية وقطاع غزة، في سياق تطبيق ما جاء في "إعلان بكين"، بحيث تحظى بأوسع دعم عربي ودولي.
جاء ذلك خلال ورشة حوارية نظمها المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية (مسارات) في مقره بالبيره، وعبر "زوم"، بمشاركة عشرات الشخصيات السياسية والأكاديمية والمجتمعية من داخل فلسطين وخارجها، وكرست لعرض ومناقشة مسودة تقرير إستراتيجي بعنوان "سيناريوهات العدوان وإدارة الحكم في غزة".
وتحدث خلال الورشة كل من هاني المصري، المدير العام لمركز مسارات، وعضوا الفريق البحثي للتقرير الإستراتيجي د. عبد الرحمن التميمي، المدير العام لمجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين، وجهاد حرب، مدير مركز ثبات للبحوث واستطلاعات الرأي، فيما ادار الورشة خليل شاهين، مدير البرامج في مركز مسارات.
وقال المصري إن الآثار المترتبة على حرب الإبادة على قطاع غزة وتداعياتها تفرض بحث السيناريوهات المحتملة لإدارة الحكم في قطاع غزة. ولذلك، يأتي هذا التقرير الإستراتيجي في إطار المساهمة في قراءة المشهد الراهن ومآلاته في الفترة القادمة، وفي ظل قراءات متعددة تأخذ اتجاهات محددة.
وأوضح أن التقرير يتضمن ستة سيناريوهات رئيسية محتملة، مع إمكانية نشوء مسارات لسيناريوهات فرعية لبعضها، بما تتضمنه من مزايا وعيوب، ومواقف اللاعبين الأساسيين كالأطراف الداخلية الفلسطينية والأطراف الإسرائيلية والإقليمية والدولية، وتأثيرها في كل سيناريو، وإمكانية تطبيقه أو تحقيقه، مع الأخذ بالاعتبار قدرة كل سيناريو على وقف العدوان الإسرائيلي بشكل شامل ودائم، واستعادة الحياة في قطاع غزة واستمراريتها، وفرض الأمن وتعزيز السلم الأهلي، والحيلولة دون تشكل حالة من الفوضى تدفع باتجاهها دولة الاحتلال، إضافة إلى ضمان وحدة وتكامل النظم السياسية والإدارية والاقتصادية بين الضفة الغربية وقطاع غزة في إطار نظام سياسي موحد، وبناء أوسع دعم عربي وإقليمي ودولي لخيارات الفلسطينيين.
واستعرض التميمي المنهجية التي اعتمدت في إعداد التقرير باستخدام أدوات علمية عدة لتطوير السيناريوهات الأكثر احتمالًا من بين السيناريوهات المتداولة أو المتخيلة، حيث أجرى الفريق البحثي نقاشا أوليا تم على إثره اعتماد عدد من الأدوات للتعمق في البحث والاستكشاف لهذه السيناريوهات ومآلاتها، وهي: تطوير استمارة تشاركية لاستمزاج الآراء بمشاركة عدد كبير من الخبراء في تخصصات مختلفة، ومن النساء والشباب، من الضفة والقطاع وأراضي 48 والشتات، وبناء السيناريوهات وفق تقنيات الدراسات المستقبلية، مثل مصفوفة التأثير المتبادل لاستنتاج العوامل الأكثر تأثيرا والعوامل الأكثر تأثرا، ودولاب المستقبل لمعرفة التداعي الرئيسي لكل عامل، والتداعيات الفرعية، وتوزين السيناريوهات، بالإضافة إلى استخدام تقنية المحاكاة عبر تنظيم يوم عمل بمشاركة عدد من الشخصيات السياسية والخبراء ضمن مجموعات لتحديد مواقف وسلوك المؤثرين في القضية الفلسطينية ومستقبل العدوان.
ونوه حرب إلى أن التقرير يتضمن ستة سيناريوهات رئيسية، في الوقت الذي يمكن استعراض عدد آخر منها لليوم التالي للعدوان الإسرائيلي، مثل سيطرة العشائر والعائلات الكبيرة، وقيام مجموعات مسلحة متعددة. ولكن لم تبرز في التقرير لضعف فرص حدوثهما، حيث تم إحباط احتمال تولي عشائر السيطرة على مناطق في قطاع غزة.
واستعرض منهجية توظيف تقنية المحاكاة كوسيلة للتحقق من تأثير مواقف اللاعبين الرئيسيين على المستويات الفلسطينية والإسرائيلية والإقليمية والدولية على مسار وفرص تحقق كل من السيناريوهات المحتملة. وأضاف أن التقرير يركز على السيناريو المفضل الذي يخدم مصالح الشعب الفلسطيني وتطلعاته، حتى وإن لم يكن تحقيقه الأكثر ترجيحا في ضوء العوامل والمؤشرات الراهنة المؤثرة في أوزان ومسارات كل من السيناريوهات المحتملة أو الممكنة. كما يقدم التقرير خيارات سياساتية موجهة لتوفير مقومات تحقيق السيناريو المفضل.
وتضمن التقرير ستة سيناريوهات هي:
السيناريو الأول: إعادة الحكم العسكري الإسرائيلي لجزء أو لجميع قطاع غزة. ويشمل إعادة الحكومة الإسرائيلية احتلالها لجزء أو جميع قطاع غزة، وقيامها بإدارة شؤون قطاع غزة من قبل الإدارة العسكرية، أو إعادة إنشاء "الإدارة المدنية" التي كانت قبل العام 1994 في قطاع غزة.
السيناريو الثاني: تشكيل حكومة/ إدارة محلية من شخصيات محلية مع وجود حاكم عسكري/ إداري إسرائيلي. ويشمل قبول بعض الشخصيات في قطاع غزة تولي إدارة الحكم بعد احتلال القطاع أو جزء منه، فيما يتولى ضابط في جيش الاحتلال توجيه هذه الحكومة، حيث يستعيد هذا السيناريو المحاولات الإسرائيلية القديمة المتعلقة بروابط القرى بداية سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، أو نموذج جيش لحد الذي أُنشئ في الجنوب اللبناني.
السيناريو الثالث: إدارة خارجية أو دولية لقطاع غزة. وقد يتضمن هذا السيناريو مسارات فرعية بحسب التصورات المتداولة المتباينة لشكل إدارة قطاع غزة، سواء من خلال قوة عربية بإشراف الولايات المتحدة، أو قوة عربية – دولية، وكذلك من حيث طبيعة علاقة السلطة الفلسطينية التي ترفض حكومة نتنياهو أي دور لها، في حين تتراوح تصورات أخرى ما بين إعطاء دور لسلطة "متجددة" في إدارة القطاع، أو تشكيل إدارة محلية تنسق مع السلطة، أو إرجاء تمكين السلطة من إدارة القطاع إلى ما بعد فترة انتقالية قد تمتد لفترة تتراوح بين 3-5 سنوات، وتكون فيها صلاحيات الإدارة والأمن منوطة بأطراف عربية ودولية.
السيناريو الرابع: استمرار العمل بلجنة العمل الحكومي التابعة لحركة حماس، أو حكومة بقيادة الحركة بالتحالف مع فصائل فلسطينية بقطاع غزة. ويتمثل هذا السيناريو في إنشاء حكومة محلية في قطاع غزة تتولى إدارة الحكم وإعادة تفعيل المؤسسات الحكومية في القطاع ومساعدة المواطنين على استعادة حياتهم بعد الدمار الهائل الذي خلفه الاحتلال الإسرائيلي. ويعتمد إنشاء هذه الحكومة على استمرار قدرة حركة حماس على الحكم وسيطرتها على قطاع غزة.
السيناريو الخامس: استلام السلطة الفلسطينية إدارة الحكم. ويتمثل باستلام السلطة الفلسطينية إدارة الحكم بعد الحرب من طرف واحد من دون وجود توافق فلسطيني داخلي على استلام السلطة الفلسطينية الحكم.
السيناريو السادس: إنشاء حكومة إنقاذ/ وفاق وطني بموجب اتفاق وطني. ويقتضي هذا السيناريو تشكيل حكومة إنقاذ/ طوارئ وطنية يتم الاتفاق على شكلها (تكنوقراط/ سياسية/ مختلطة/ شخصيات عامة) وبنيتها وصلاحياتها وطنيا. ويتماشى هذا السيناريو مع ما ورد في "إعلان بكين" الذي نص على تشكيل حكومة وفاق وطني مؤقتة، إلى جانب الاتفاق على تفعيل وانتظام الإطار القيادي المؤقت الموحد للشراكة في صنع القرار السياسي، إلى حين تشكيل مجلس وطني جديد.
ويخلص التقرير إلى أن تشكيل حكومة وفاق وطني مؤقتة في الضفة والقطاع هو السيناريو المفضل، الذي يتطلب العمل لبناء مقومات تحقيقه كخيار وطني للكل الفلسطيني. كما يعتبر أن "إعلان بكين" يشكل فرصة للمضي في بناء هذا الخيار الوطني، وهو ما يتطلب تضافر جهود القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والأطر النسوية والشبابية والمستقلين، لتشكيل حالة ضاغطة لضمان تنفيذ هذا الإعلان أولًا وتطويره ثانيًا.
وحسب التقرير، تتمثل المهمة المركزية العاجلة للإطار القيادي وحكومة الوفاق الوطني في بلورة خطة إنقاذ وطني تستند إلى التوافق على إستراتيجية سياسية ونضالية شاملة، وخطة عمل وطنية خلال فترة انتقالية. أما المهمات ذات الأولوية للعمل الوطني، فهي تبدأ أولا بالتوصل إلى وقف إطلاق نار دائم، وما يعنيه ذلك من وقف نهائي لحرب الإبادة، وعودة النازحين قسرا إلى أماكن سكناهم، وتوفير مأوى ملائم لهم، وانسحاب قوات الاحتلال بشكل كامل، مع التوصل إلى صفقة تبادل أسرى جدية. ولتحقيق ذلك، لا بد من المبادرة إلى تشكيل مرجعية وطنية عليا تعكس إجماعا فلسطينيا داعما لعملية التفاوض الرامية للتوصل إلى اتفاق ينهي العدوان بشكل شامل وكامل.
كما يقترح التقرير عددا من المهمات الأخرى ذات الأولوية، ومنها الشروع الفوري في تنفيذ برنامج إغاثي عاجل يضمن توفير المساعدات الإنسانية لجميع مناطق قطاع غزة وتوزيعها بشكل عادل، ويعيد إحياء مقومات الحياة في قطاعات الصحة والتعليم، وتنفيذ خطة إنعاش اقتصادي عاجل لإعادة إحياء قطاعات الاقتصاد والتجارة والخدمات، وإحباط أي مخططات لإشاعة الفوضى في قطاع غزة، أو تشجيع بروز تشكيلات إدارية متعاونة مع الاحتلال، والحفاظ على الأمن والسلم الأهلي، وكذلك العمل لعقد مؤتمر دولي عاجل لتمويل إعادة إعمار وبناء قطاع غزة، وضمان رفع الحصار عنه.
ويحذر التقرير من إعادة تكرار التجارب السابقة الفاشلة لإعادة بناء الوحدة الوطنية، وهو ما يستدعي مبادرة كل القوى والتيارات والحراكات الشعبية الحريصة على الوحدة الوطنية إلى توحيد جهودها في سبيل بناء تيار وطني وشعبي في الوطن والشتات قادر على شق مسار إعادة بناء الوحدة الوطنية، ووقف العدوان وإحباط مخططات الإبادة والتهجير في الضفة والقطاع، واستعادة مكانة القضية الفلسطينية في النضال من أجل التحرر الوطني والديمقراطي.
[email protected]