سقطت يوم الثلاثاء الفائت قذيفة صاروخية في منطقة قريبة جدا من مبنى كنيسة قرية اقرث المهجّرة الواقعة في اعالي الجليل الغربي والقريبة من الحدود اللبنانية. نقلت الاخبار أن الصاروخ الذي اطلق من داخل الارض اللبنانية قد اصاب الكنيسة وتسبب لمبناها باضرار جسيمة، وان احد ابناء الكنيسة، الذي تصادف وجوده في ساحاتها، قد اصيب بشكل خطير. قامت بعض المنصات الاخبارية الاسرائيلية بنقل الخبر بسرعة فائقة وكأنها تريد ان تسجّل نقطة في حربها الاعلامية بحق "حزب الله"؛ ففي نهاية المطاف، هكذا كانت ستكون الدعاية، في الحرب كل احتمال جائز الوقوع، اما عمدًا وإما عن طريق الخطأ. حتى دور العبادة، سواء كانت جامعًا ام كنيسة ام كنيسا، لن تسلم ولن تستطيع السماء حمايتها؛ فهي، أي السماء، عاجزة، كما نرى، عن حماية البشر وانقاذ الابرياء الذين يسقطون على وقع "الحصاة في الدم" في اعراس الموت الراقص.
بعد ساعات من وقوع الحادثة اتضحت الصورة؛ وتبيّن أن الكنيسة لم تصب بشكل مباشر، بل أن بعض الاضرار وقعت في محيطها الخارجي نتيجة للصدمة الارتدادية التي سببتها القذيفة، وتبين كذلك ان عددا من الجنود، الذين كانوا في الموقع، قد اصيبوا واصيب، ايضا، المواطن حنا ناصر، ابن قرية اقرث، المواظب على زيارة بقاياها وكنيستها الصامدة، مرتين في الاسبوع، رغم اجتيازه الثمانين عامًا من عمر الوجع. خيّب الموت آمال مهندسي الدعاية الاسرائيلية فلم يمت حنا المسيحي والكنيسة سلمت ولم تصل، هذه المرة، نيران الصاروخ اللبناني الى حرج حزب الله وبقيت اسرائيل وحدها في هذه الحرب هدّامة الكنائس.
وقعت هذه الحادثة والعالم المسيحي يحتفل بحلول عيد الميلاد، حيث كانت عيون أهل المعمورة كلها متجهة نحو فلسطين، صاحبة هذا العيد، ونحو كنائسها ورعاياها الفلسطينيين المسيحيين. كل الناس يتطلعون نحو كمشة العرب المسيحيين الباقية في وطنها والبعض يشكك في نظافة مواقفهم. وقفت اسرائيل تنتظر عرسها في ساحات الشقاق، بيد ان بيت لحم بقيت اختًا لغزة واختارت ان تصلي لطفلها، يسوع، وهو تحت الحطام، الذي كان وبقي حطام قيم البشر الفاسدين.
لم يكن أي خيار آخر أمام رؤساء الكنائس المقيمين في القدس الا ان يعلنوا مبكرا عن "الغاء جميع الفعاليات الاحتفالية المخططة لعيد الميلاد المجيد لهذا العام واقتصار الاحتفالات على الصلوات والطقوس الكنسية الدينية في ظل العدوان على غزة والضفة الغربية منذ السابع من اكتوبر".
لا شك بأن هول المشاهد المريعة التي نقلتها شاشات الاخبار، كانت السبب المباشر وراء موقف الكنائس المذكور، خاصة بعد ان عبّروا عن استنكارهم الصارم لعملية حماس، ووصَفها بعضهم بالعمل الارهابي ؛ لكنني اعتقد انه الى جانب الدافع الانساني المذكور لم يستطع هؤلاء الرؤساء الكنسيين والبطاركة تغييب دور ومكانة رعايا كنائسهم المسيحيين بالرغم من اعدادهم القليلة في فلسطين وداخل اسرائيل. فهؤلاء الرعايا هم اصل المسيحية في هذه البلاد وهم من يسبغون الشرعية على مسيحية المستعمرين، فالاصل والفصل كانا وما زالا فلسطينيين.
انها واحدة من المحطات التاريخية النادرة في العصر الحديث، عصر ما بعد استعمار الكنائس المشرقية من قبل الدول الغربية، التي يضطر فيها رؤساء معظم كنائس المستعمرين في فلسطين الى اتخاذ قرار متطرف وغير عادي، وفق منطقهم اللاهوتي والتسيّدي السائد، اذ افضى في النهاية الى التعاطي مع "الميلاد" ومعانية الموروثة، وهي مقرونة بمعاني الموت والفداء والقيامة. فميلاد المسيح هذا العام تم تحت التراب وبين الركام، وتحديدا في غزة، وهي حالة مجازية فريدة في حياة المؤمنين بالمسيح، الذين طفق بعضهم يسائلون ربهم، لماذا ترك غزة ولماذا يحجب وجهه عن غزة ؟
انها أسئلة كبيرة لا يستطيع ان يسألها الا المؤمن الحقيقي، الثائر على طريقة سيده يسوع، ومثل هؤلاء كثر قد ولدوا في فلسطين وجدت من بينهم القس منذر اسحق، راعي كنيسة الميلاد اللوثرية في بيت لحم. كنت اتمنى ان انقل لكم خطبته في العيد بمعانيها المؤثرة واللافتة ولما فيها من روح لاهوتية شرقية مسيحية وطنية يغفلها العالم الغربي، عمدا واستعلاءً؛ ولا تحظى بتقدير العالمين، العربي والاسلامي، جهلاً وعقيدةً.
"نحن غاضبون ..نحن مكسورون" كان عنوان خطبة الاب منذر وفيها يقول: "كان ينبغي أن يكون هذا وقت فرح. بدلا من ذلك ، نحن في حداد. نحن خائفون" ، ثم يصف ما جرى ويجري في غزة من عمليات قتل وتطهير . ثم يوجه غضبه نحو صمت رؤساء دول العالم ويتساءل: "هل يمكن ان يكون هذا مصيرنا في بيت لحم؟". لم يجب على سؤاله رغم منطقه الصحيح، لكنه، وهو يتذكر بكم العالم وصمته ازاء قتل آلاف الأطفال و الابرياء، يعلن عن انزعاجه من "صمت الله" ويخبره كيف اصبحت "في هذين الشهرين الأخيرين مزامير الرثاء رفيقا ثمينا" وكذلك كيف بحثنا "في آلامنا وحزننا ورثائنا عن الله فوجدناه تحت الانقاض في غزة ". إن يسوع كان ضحية الامبراطور ولم يزل وصرخ ويصرخ من تحت الركام إلهي أين أنت ؟
لا اعرف مَن من بين رؤساء الكنائس والبطاركة مستعد لأن يتكلم بهذا الفهم والغضب والرجاء وان يعلن على الملأ انه "لو ولد يسوع اليوم لكان قد ولد تحت الركام في غزة" وأنه "عندما نمجد الكبرياء والغنى، يكون يسوع تحت الركام. وعندما نعتمد على القوة والجبروت والسلاح يكون يسوع تحت الركام. وعندما نبرر ونفسر ونضع نظريات لاهوتية عن قصف الاطفال، يكون يسوع تحت الركام .. يسوع تحت الركام، هذا هو مذوده. انه مع المهمشين والمعذبين والنازحين.. هذا هو الطفل هو أملنا وإلهامنا". هكذا يكون كلام الغضب ، كلام الخوف، كلام الأمل، ومن شاء فليكن هذا كلام المسيحي الفلسطيني المؤمن. فلنسأل، كما يسأل كل فلسطيني، مسيحيًا كان ام مسلمًا : هل ممكن ان يكون هذا مصيرنا ، في المثلث والنقب والجليل ؟ً
بيننا من يحاول ايهامنا بان مصيرنا كمسيحيبن داخل إسرائيل مؤمّن واننا لن نتأذى من أي سياسة حكومية عتيدة. يبقى هذا الكلام مجرد هراء لا أساس له وتدحضه تجربتنا وينفيه واقعنا الحالي. من يحاول بث هذه الادعاءات بين المواطنين والاصرار على اننا كمسيحيبن يجب ان نتميز عن سائر ابناء شعبنا، لا يستهدف الا زرع التفرقة ونشر الفتنة، وذلك كما حصل في بعض المواقع مؤخرًا عندما حاولت بعض المجموعات الهامشية الاعتراض على قرار الكنائس المحلية في القرى والمدن العربية باقتصار احتفالات العيد على الطقوس الكنسية الدينية، ولكن، كما كانت بيت لحم اختا لغزة كانت الناصرة اختًا لبيت لحم ففشل جميع هؤلاء.
من الجائز طبعا ان يصيبنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل ما اصابنا من قبلُ وكما سيصيب بيت لحم او اكثر. ومن ما زال يراهن على مسيحيته الموالية او اسلامه الحسن او درزيته الطيّعة ليقرأ مجددًا قوانين الكنيست المشرعة في الاعوام الاخيرة، او يسمع اقوال الحاخام مئير شموئيلي المنشورة في وسائل الاعلام وفيها يحرض على الاطباء والصيادلة العرب ويتهمهم انهم يقومون بقتل المرضى اليهود عمدا في المستشفيات او بتشويههم عمدا، ويتمنى ان "تمحى اسماؤهم" وهو دعاء يهودي لموت فلان.
ما يحرك عنصرية هذا الحاخام وتطرفه الخطير هي عقيدته الدينية طبعا؛ وهي ذات المحركات التي ستدفع سياسات حكومة اسرائيل بعد انتهاء الحرب على غزة بإتجاه مواجهة مواطنيها العرب، ولن يشفع لنا سلوكنا المميز والمتعقل، ولا موقفنا ضد هجمة حماس وشجبها وادانة قتل المدنيين العزل. لن يشفع لنا ذلك فعلينا، ونحن "غاضبون ومكسورون" ان نفتش عن سبل خلاصنا قبل ان نندهش من صمت العالم ونسأل: الهي اين انت ؟
اعجبني ايمان القس منذر اسحق، الثائر المسيحي الفلسطيني، الذي وجد أمله والهامه بين الركام في غزة؛ وتمنيت لو اشعر مثله، لكنني لست ممن يؤمنون انه بالدين وحده ينجو ابن البشر. فكل اله بمؤمنيه معجب، واسألوا ان اردتم ذاك الحاخام او ذلك الشيخ او هذا الكاهن وكلهم يدعي في الايمان حذق وورع.
للحظات تخيلت ماذا كان سيحصل لو اصاب الصاروخ اللبناني كنيسة اقرث وهدمها، او اصاب حنا، حارس الامل والعهد، وقتله. تساءلت عندها: تحت اي ركام كان سيولد يسوع الذي وجده القس منذر تحت ركام غزة؟
لقد عادت اقرث، القرية المغدورة في العام 1951، بعد قصة الصاروخ اللبناني، الى حضن النسيان ، بينما يرقد ابو ناصر، فارسها العنيد، في المستشفى ويحلم ببيادرها ، التي تركها وهو في سن العاشرة، وينثر في الفضاء هواءها المخزن في صدرها آهاتٍ وعطرًا.
حنا الاقرثي الأصيل يعرف، هكذا أظن، انه بالدين وحده لا ينجو الانسان، فهو لم يذهب الى إقرث المهجّرة كي يفتش عن يسوع تحت اي ركام. حنا يحمل يسوع في قلبه فكرة، تماما كما يحمل فيه فكرة الوطن والايمان.
[email protected]