كانت معركة "بأس جنين" انتصارًا للمقاومة الموحدة ميدانيًا، بدليل أن أهداف قوات الاحتلال لم تتحقق، فالمقاومة لا تزال حاضرة وقوية في مخيم جنين، واكتسبت زخمًا سياسيًا وشعبيًا أكبر من السابق، ومن أسباب الانتصار تصرف المقاومين بشكل أظهر تجاوز الكثير من الأخطاء السابقة؛ حيث اعتمدوا المناورة والخديعة والكر والفر وأسلوب حرب العصابات "اضرب واهرب".
قراءات متعددة للمعركة
كالعادة، رأينا قراءات متعددة للمعركة، فهناك رأي معزول يركز على الخسائر ويرفض الحديث عن الانتصار، ويعدّ ما جرى هزيمة أخرى، ويذهب بعض هؤلاء إلى حد الزعم أن ما يجري مؤامرة تهدف إلى انهيار السلطة في الضفة لإنجاح مخطط الضم، وتقوية سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة.
وهناك من يبالغ في الانتصار لدرجة الحسم بأن "بأس جنين" تحول نوعي وتاريخي، أو حدث مؤسس يرتقي إلى مستوى معركة الكرامة التي كانت نقطة تحول في التاريخ الفلسطيني؛ حيث شهدت بداية الصعود الحقيقي للثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح.
وهناك من يعطي المعركة حجمها الطبيعي من دون زيادة أو نقصان، بأنها تطور مهم، ومن السابق لأوانه اعتبارها نقطة تحول حاسمة، أو حدث مؤسس لما بعده تشبه معركة الكرامة، وخصوصًا أن الظروف الذاتية والموضوعية الحالية تختلف عن تلك التي كانت قائمة في العام 1968؛ إذ كانت هناك قيادة فلسطينية صاعدة بقيادة ياسر عرفات، وفصائل تمثل مختلف ألوان الطيف السياسي تنطوي في إطار منظمة التحرير، وكان هناك برنامج سياسي وميثاق وطني يجسدان وحدة القضية والأرض والشعب والرواية التاريخية، وكان النظام الرسمي العربي، وتحديدًا نظام جمال عبد الناصر، يشعر بمرارة الهزيمة، لذا دعم القيادة الفلسطينية الجديدة، ووجد في الثورة الفلسطينية "أنبل ظاهرة أوجدها التاريخ"، وأنها "وجدت لتبقى"، كما قال الزعيم جمال عبد الناصر، بعد أن كان يعدّها قبل هزيمة حزيران جزءًا من الطابور الخامس، ومن المساعي لتوريط مصر والعرب في حرب قبل أوانها.
في هذا السياق، وجدت الثورة الفلسطينية دعمًا عربيًا ودوليًا، لا يقتصر على المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، ومنظومة عدم الانحياز، وقوى وأحزاب حركة التحرر العالمية والأحزاب الثورية والتقدمية والديمقراطية، وحركات التضامن في الدول الغربية وعلى امتداد العالم.
ما سأركز عليه في هذا المقال، ضرورة البناء على الانتصار الذي تحقق في جنين، وقبلها في سيف القدس وهبة الكرامة، وقبل ذلك في كل الثورات والانتفاضات والهبات والموجات التي شهدها الصراع، والتي برهنت أن لا حل يمكن أن ينجح اعتمادًا على القوة والعدوان والمجازر والتهجير، وأن الاحتلال يولد المقاومة، فطائر الفينيق الفلسطيني ينهض دائمًا من الرماد مجددًا، ويتجاوز المعاناة والتضحيات الهائلة، ويواصل الطريق، مع أن المقاومة كانت تزرع والسياسة والقيادات كانت بدلًا من أن تحصد تبدد في أحيان كثيرة ما زرعته المقاومة، وآن الأوان لبلورة قيادة واعية مخلصة مكافحة قادرة على أن تزرع وتحصد، فمن بدونها لا يمكن الانتصار.
ويتطلب هذا الأمر رؤية الانتصار الذي تحقق بحجمه من دون مبالغة ولا تقليل، على أساس أنه تجسّد من خلال قدرة الطرف الضعيف على الصمود وإفشال أهداف العدوان وإلحاق خسائر به، وليس من خلال تحقيق أهداف المقاومة، فلم تحرر المقاومة أرضًا ولم توقف الاستيطان ... إلخ، والحرب لا تزال مفتوحة، وسيحاول الاحتلال معاودة الكرة والعدوان مرة ومرات لتحقيق ما عجز عن تحقيقه، والخسائر التي قدمها مخيم جنين لا يجب التقليل منها.
الشرط الأهم للانتصار وضع هدف وطني كبير قابل للتحقيق
أهم شرط للبناء على الانتصار، وحتى لا تبقى المقاومة وكأنها من أجل المقاومة، وضع هدف وطني كبير قادر على حشد أكبر عدد من الفلسطينيين حوله. هدف قابل للتحقيق على المدى المباشر والمتوسط؛ أي خلال سنوات، فلا يكفي أن تطلق المقاومة شعارات كبيرة وأهدافًا بعيدة التحقيق على أهميتها، ولكن لا بد من وضع وتحقيق أهداف مباشرة على طريق تحقيق هدف مركزي ناظم، وصولًا إلى تحقيق الأهداف النهائية.
لقد شعرت بالفرحة وأنا أستمع لتصريح صالح العاروري، القائد الحمساوي، الذي جاء فيه: "إن معركة "بأس جنين" أثبتت أن المقاومة في الضفة قادرة على طرد الاحتلال". وآمل أن يتحول هذا الموقف إلى هدف للشعب الفلسطيني والقيادة والقوى الفلسطينية على اختلاف برامجها، فلا أحد مفترض أن يعارض إنهاء الاحتلال بحجة إما الكل أو لا شيء، خصوصًا أن إنجاز هذا الهدف سيتحقق اعتمادًا على المقاومة ومختلف أشكال النضال والعمل السياسي من دون تنازلات عن الأهداف والحقوق الأساسية والرواية التاريخية، وبالتالي حتى يتحقق يجب التركيز عليه، من دون تجاهل أو التخلي أو التقليل من أهمية الأهداف الأخرى، مثل إنجاز حق العودة، أو المساواة وإسقاط نظام الفصل العنصري، وهو هدف قابل للتحقيق قبل إنجاز الأهداف الأخرى.
أثبتت المعركة الأخيرة في جنين أنه إذا تم تعميم ما يحدث في جنين ونابلس على بقية أنحاء الضفة المحتلة، فهذا سيجعل بقاء الاحتلال أصعب وأصعب ثم مستحيلًا.
يستند برنامج إنهاء الاحتلال أولًا، ثم تجسيد الاستقلال الوطني والسيادة، إلى وجود خمسة مليون ونصف المليون في الضفة الغربية وقطاع غزة، مقابل مليون مستعمر فقط، وإلى أن قطاع غزة شبه محرر، ويملك إمكانات للمقاومة التي يجب أن تضع هدفًا لها لاستكمال تحرير القطاع؛ لأن قوات الاحتلال انسحبت من داخل القطاع وبقيت سيطرتها على شريط منه، ولا تزال تمارس عليه الاحتلال من خلال الحصار والعدوان، ما يعتبر في القانون الدولي استمرارًا للاحتلال، فالمقاومة في غزة تراكم قوتها، ولكن من داخل السجن والحصار، ولكنها مطالبة بالعمل مع الكل الوطني وفي إطار شراكة وخطة وطنية متكاملة، تشمل كل التجمعات والمناطق الفلسطينية داخل الوطن وخارجه، وبصورة تنهي قدرة الاحتلال على توظيف الانقسام لصالحه، من خلال تعميق النزاع بين السلطتين المتنازعين، والسعي إلى تعميم التجربة بإيجاد سلطات جديدة في شمال الضفة وجنوبها ووسطها.
السلطة أمام خيارين: إما التحول إلى سلطة عميلة، أو تغيير نفسها والانحياز للشعب
لا يمكن فهم قرارات الحكومة الإسرائيلية في اجتماعها يوم الأحد الماضي، الذي عقد تحت عنوان "تقوية السلطة"، والتي تضمنت شروطًا إذا وافقت عليها السلطة ستقدم على انتحار سياسي واستسلام كامل؛ لأنها إذا وافقت على هذه الشروط ستتحول إلى سلطة عميلة، وجزء من منظومة الأمن الإسرائيلي؛ ما يضيق هامش المناورة أمام السلطة، أو بمقدورها أن تنحاز لشعبها، وتغيير وظائفها والتزاماتها وتوزيع موازنتها؛ لتصبح أداة في خدمة البرنامج الوطني، وليس من الضروري ولا المطلوب أن تكون سلطة مقاومة؛ لأنها ستتعرض حتمًا إلى حرب عسكرية إسرائيلية لتدميرها، ولكن تكون سلطة مجاورة للمقاومة تسعى أساسًا إلى تقديم الخدمات، وتوفير مقومات الصمود والتواجد الشعبي الفلسطيني على أرض فلسطين، ولو أدى هذا إلى عدوان إسرائيلي يسبب انهيارها سيبتدع الشعب الفلسطيني في هذه الحالة أشكال العمل والمؤسسات الشعبية الكفيلة بتوفير حاجاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كما فعل في الانتفاضة الأولى، من خلال خلق أشكال من الاقتصاد المقاوم والتعليم البديل والصحة وغير ذلك.
عوامل تساعد على تحقيق هدف إنهاء الاحتلال
يستند طرح شعار إنهاء الاحتلال إلى عوامل عديدة، أهمها أن شعبنا بشكل عام، وفي الضفة، قاوم وسيقاوم باستمرار، موجة وراء موجة، والموجة الأخيرة المستمرة منذ حوالي سنتين، أكثر ارتفاعًا وعمرًا، وألحقت بالاحتلال عشرات القتلى وأضعافهم من الجرحى وخسائر مادية ومعنوية كبيرة.
كما يستند هذا الشعار إلى أن الأمم المتحدة والدول المؤثرة في القرار الدولي، بما فيها الدول الداعمة بشكل عضوي لإسرائيل، مثل الولايات المتحدة، والدول الصديقة للفلسطينيين، تؤيد إنهاء الاحتلال من دون العمل على تحقيق ذلك، ولا يجب إعفاؤها من المسؤولية. كما أنها لا تدعم أهدافًا وحلولًا مثل تحرير فلسطين أو حل الدولة الواحدة، في ظل وجود حكومة إسرائيلية هي الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، وهي في أزمة داخلية كبيرة لها انعكاسات على علاقاتها الدولية، بما في ذلك علاقاتها بالولايات المتحدة، ولعل تصريحات بايدن الانتقادية الأخيرة لحكومة نتنياهو مثال على ذلك.
في هذا السياق، لا يتعارض التركيز على هدف إنهاء الاحتلال مع الخيارات الوطنية الأخرى، بما فيها التحرير أو الدولة الديمقراطية الواحدة أو الدفاع عن الحقوق ... أو غيرها من الخيارات الوطنية، ولا يعني أنه المسار الوحيد في كل الأحوال وإنما حاليًا، وإذا توفرت فرص أخرى لتحقيق خيارات أخرى يجب الاستعداد لالتقاطها.
ويستند هدف إنهاء الاحتلال إلى وجود متغيرات إقليمية ودولية، أهمها صعود دول إقليمية، مثل إيران وتركيا، تنافسان إسرائيل، إضافة إلى حدوث تغيرات متلاحقة في الوضع العربي والإقليمي، ظهرت بشكل واضح في المصالحات بين الدول، وفي مواقف الدول الخليجية الأخيرة، خصوصًا السعودية، التي تبنت سياسة جديدة نتيجة الخيبات من الإدارات الأميركية، والتغيرات في النظام الدولي لصالح التحرك نحو قيام نظام تعددي القطبية، قوامها اللعب على المحاور الدولية، وتحديدًا الشرق والغرب، وعدم الاستمرار في الانحياز الكامل للغرب بقيادة الولايات المتحدة.
يمكن أن يوظف الفلسطينيون هذه التغيرات لصالحهم إذا وفروا المتطلبات الضرورية، التي تتمثل في: التخلي عن الأوهام والخيارات الخاطئة والمراهنة على الغير والغيبيات، وبلورة رؤية وإستراتيجيات جديدة، وقيادة ومؤسسة وطنية جامعة واحدة، وإنهاء الانقسام والاحتكام إلى الشعب بالانتخابات على كل المستويات بانتظام كلما وحيثما أمكن. ولا يعني ذلك انتهاء الخلافات التي كانت، وستبقى كبيرة، ولكن المخاطر التي تهدد الفلسطينيين جميعًا، تحتم ذلك، خاصة في مرحلة الحكومة الكهانية التي تتصور أنها قادرة على حسم الصراع لصالحها بقوة من دون مفاوضات ولا حلول وسط، وإنما من خلال فرض الحل الإسرائيلي بالقوة .
اجتماع القاهرة: فرصة للإنقاذ أم إعادة إنتاج التجارب الفاشلة؟
يوفر اجتماع القاهرة في نهاية الشهر فرصة قد تكون الأخيرة فيما إذا سيكون بمستوى التحديات والمخاطر الجسيمة أم لا.
حتى الآن، لا توجد بوادر تشير إلى تغيير الطرق السابقة؛ إذ تقتصر الدعوة على الفصائل والأمناء العامين، مع أن المياه التي جرت عند الفلسطينيين أثبتت أن هناك لاعبين وحراكات ومقاومين كثرًا ومن طراز جديد، إضافة إلى الشباب والمرأة من داخل فلسطين وخارجها المغيبين عن المؤسسات والحوارات الوطنية وعن المشاركة في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم؛ يجب أن يكونوا على طاولة الحوار، الذي يجب ألا تقتصر أجندته على وضع رؤية وخطة لمواجهة العدوان وخطة الحسم الإسرائيلية، وإنما توفير متطلبات ذلك، عبر تغيير المسار وتبني مسار جديد، وإعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أساس وطني، وتشكيل حكومة وحدة وطنية بعيدًا عن شروط الرباعية، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف الألوان، واعتماد الانتخابات على مختلف القطاعات والمستويات، خصوصًا الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني كلما وحيثما كان ذلك ممكنًا، بوصف الانتخابات حقًا أساسيًا وجزءًا من المعركة الوطنية، ولا تنتظر ضوءًا أخضرَ من الاحتلال، ولا يمنعها فيتو منه أو من غيره، واعتماد الوفاق الوطني على أساس معايير وطنية ومهنية وموضوعية مؤقتًا عند تعذر إجراء الانتخابات.
[email protected]