تقديم: حصلت على كتاب المربية عفيفة مخول - خميسة "خالٌ على خدّ الجليل"، لدى مشاركتي في مؤتمر "أدب المرأة والإشكالية بين النسوي والنسائي"، الذي بادر اليه "الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين – الكرمل 48" واحتضنته قرية معليا، ممثلة بمجلسها المحلي ومؤسساتها التربوية والثقافية، يوم السبت 11 آذار 2023، حيث عرضت المربية والكاتبة كتابها عند مدخل القاعة فحصلت على نسخة منه دون أن أتعرف شخصيا على الكاتبة للأسف.
تناولت الكتاب من باب حبّ الاستطلاع وأعترف أني لم أكن أخطط لقراءته على الفور، حيث هناك كم من الكتب ينتظر دوره للقراءة، وبالطبع كنت أجهل ما يحويه أو عن ماذا يتحدث، لكن هو حب المعرفة والاستطلاع، خاصة أني قرأت للكاتبة عددا من المقالات في المواقع المحلية، وشاهدتها تقرأ نصا في مؤتمر الأدب النسوي المذكور.
بدأت في قراءة الكتاب لأتعرف على مضمونه وهويته، وفوجئت بالكاتبة تطرح مسألة دور وهدف الكتابة والتأليف، هذا السؤال الذي يشغل بال معظم الكتاب والشعراء وكثيرا ما يطرحونه على أنفسهم، علّهم يصلون الى جواب قاطع، لكن .. هيهات.
وقبل قراءة الكتاب لفتني عنوانه ولم أنتبه للتورية فيه، وظننت أن الكاتبة تقصد المعنى المباشر البسيط وهو حبة الخال التي تظهر على خدّ الانسان، خاصة وأنها أرفقته بعنوان ثانوي "قصة من الحياة"، وذهب ظني الى أنها تنقل لنا قصة واقعية مرت بها أو عايشتها من أجواء الجليل، ومما عزز اعتقادي هذا أن عنوان الكتاب جاء على خلفية صورة لأحد جبال الجليل الخضراء.
صراحة لم أفهم في الصفحات الأولى ماذا تريد الكاتبة وما هو الموضوع الذي تطرقه. مرة تقول أنها "سيرة ذاتية" ومرة "تأريخ" (ص 11) وتأخذ بالحديث عن أصول وجذور عائلتها. وكان من الصعب متابعة الأسماء وتسلسلها (فالقاريء العادي والذي لا تربطه علاقات شخصية أو معرفة بالكاتبة وعائلتها يصعب عليه استيعاب الغرض من تلك الأسماء)، وتحدثك عن عائلتها عائلة مخول الكرام وما يتمتعون به من صفات جميلة وشغفهم بالثقافة والسير في المنحى الوطني وتنتقل لتسرد لك بعض المعلومات التاريخية عن قريتها البقيعة الى أن تصل الى صفحة 30 وهنا تبدأ كقاريء بالدخول في جو الكتاب، حين تأخذ الكاتبة بالحديث عن شخصية وطنية تربوية مميزة، وهي الأستاذ المناضل نعيم مخول، وأجدني أسأل نفسي: هل هذا هو نعيم الذي كنت تسمع عنه في مطلع شبابك؟ والذي يذكرك تطابق اسمه مع شخص آخر عرفته جيدا من قرية المكر، حيث ربطتك به علاقة قرابة كما يقال؟
وهكذا بدأت أنغمس في جو الكتاب وشدني الموضوع لأتعرف على هذه الشخصية التي طالما سمعت بها وعنها وإن كان نزرا يسيرا، وجاء هذا الكتاب من ابنة أخته لتعرفنا عن قرب على الأستاذ نعيم بالتفصيل.
"عيّن نعيم معلما في مدرسة البصة الوطنية" عام 1943، وبعد سنوات اكتشف الأستاذ نعيم كخطيب قدير في مهرجان حضره مصادفة وتحدث فيه الزعيم الفلسطيني أحمد الشقيري والمطران حكيم، وتمت ملاحقة نعيم لأنه أخذ يتحدث في السياسة ويدعو أبناء شعبه لليقظة أمام ما يحاك لهم من مخططات خبيثة "وبناء على ذلك صنّف نعيم "كمشاغب" يجب شكمه باستمرار فاستدعي للتحقيقات مرارا، وحوصر بشكل صريح.." (ص 34) وينخرط نعيم في العمل السياسي خاصة في الدفاع عن الأرض والتصدي لمصادرتها، لكنه لم يجد ضالته في أي حزب قائم، فراودته فكرة تشكيل حزب عربي قومي ولم ينجح في ذلك إلى أن قامت "القائمة التقدمية للسلام" وكان من بين مؤسسيها لكن هذه التجربة انتهت بخيبة أمل.
وفي مرحلة الناصرية تأثر نعيم بالقائد العربي جمال عبد الناصر وأخذ يتابع خطوات الثورة في مصر ولم يتأخر عندما "نادتنا مصر فلبينا نداها، أغنية كانت تهدر من المحيط إلى الخليج! ونعيم أنصف نفسه فلبى النداء". (ص 43)
يتم نفي نعيم الى قرية شعب عام 1952 وهناك يعمل على فتح مدرسة لتعليم أبناء القرية في مبنى الكنيسة التي باعها المطران حكيم بعد نزوح السكان المسيحيين عن القرية.
نعيم تأخر في الزواج ولم يلتفت الى من حوله من الفتيات (ص 44)، إلى أن يتعرف الى الآنسة أنطوانيت أديب خوري، المذيعة في الناصرة وهي من مدينة يافا فربط الحب بين قلبيهما، وبدأت تقف في وجهيهما العقبات والعثرات خاصة على ضوء البعد الجغرافي والتباعد الاجتماعي، وأخذ نعيم يسعى لبناء بيت له استعدادا للزواج وإقامة عائلة، مما أوقعه في خلافات عائلية مع أبناء عمه وصلت حد المواجهة الجسدية، دخلت فيها صبغة طائفية قام على اثرها أبناء عمه بالرحيل الى المكر. ويشرع نعيم ببناء بيته خارج القرية، في أرض لم يتم الاتفاق على تسميتها وتدعى "باب المرج"، ويصل الخبر للسلطات التي عزمت على منع إقامة البناء فأوكل نعيم المحامي حنا نقارة للدفاع عن حقه. وينتصر نعيم في المحكمة العليا ويطلق صرخته "انتصار" ويعزم على تسمية البلدة الجديدة بهذا الاسم "انتصار".
وفي خضم نضاله لاستكمال البناء ومحاولات السلطة عرقلة البناء يتزوج نعيم من انطوانيت، وتفتح عليه جبهة جديدة من مقربين يحاولون الإيقاع بينه وبين زوجته، بينما هو "يرى إقامة نواة وطن في أرض المرج جزءا من مشروع متكامل هو تثبيت أقدام الفلاح العربي في أرضه" (ص 71). ويثمر الزواج عن خمسة أبناء وهم: انتصار، بريئة، مها، مكرم وأديب. ورغم ذلك لم تتأقلم الزوجة مع المنطقة الجديدة التي انتقلت اليها، وهي التي اعتادت يافا وأجواء المدينة، ويقع الخلاف بين الزوجين ويصل الى المحاكم، وكان ان خسر زوجته وأولاده الذين تركوه وعادوا مع والدتهم الى يافا.
وبعدها يتزوج نعيم ثانية من امرأة قروية تجيد عمل الفلاحة من قرية طرعان وينجب منها ابنتين: هدى وندى. وينتقل نعيم الى باريه عام 2004 وقد شهد أن كل ما سعى اليه وناضل من أجله يتبخر مما زاد من حزنه وآلامه وعلى رأسها عدم اطلاق اسم "انتصار" على القرية التي وضع حجر الأساس لها، واختلف أهل القرية بين اسمين "قرية مخول" أو "البقيعة الغربية". وفي الصفحات الأخيرة من الكتاب تتحدث ابنة اخته عفيفة، بألم وأسى عن خالها والوضع الذي وصل اليه نتيجة الغدر به وعدم ايفائه حقه والاعتراف بفضله، ويمكن أن يكون للأطراف الأخرى ادعاءاتها الصحيحة من وجهة نظرها، لكن لا شك أن نهاية حياة نعيم كانت تراجيدية ولا تليق بدوره وتاريخه. وتعود الكاتبة وتستذكر بعض نشاطات خالها ومواقفه في التسعينات، في خريف عمره، وخاصة فيما يتعلق بأملاك الكنيسة التي تعرضت للبيع والتلاعب بها، والخلافات الداخلية في الأبرشية وموقفه منها، ومثابرته في كتابة المقالات في الصحف المحلية.
تشير الكاتبة بأن غايتها من وضع الكتاب، إضافة الى التكريم "إثبات ما أراه أمرا بشريا حتميا" (ص 116). ويبقى "كتاب "خال على خد الجليل"، كتابا توثيقيا هاما، يحكي سيرة انسان وطني، عنيد، مثابر، لعب دورا هاما في صفحات نضال الشعب الفلسطيني بعد النكبة وفي مقارعة السلطة الإسرائيلية، ويبقى نجاحه في إقامة أول قرية عربية بجهد ذاتي، عنوة عن السلطة التي لم تبادر إلى إقامة قرية عربية لمن حولتهم الى مواطنيها، صفحة ناصعة في تاريخه. كما أن الكتاب يلقي الضوء، من خلال الحديث عن نعيم، على مرحلة تاريخية مفصلية من تاريخ شعبنا خاصة في الداخل. وتكمن أهمية الكتاب أنه يشكل وثيقة تاريخية تحفظ للأجيال المتعاقبة، صفحات من تاريخ شعبنا جديرة بالحفظ والصون والمعرفة.
[email protected]