تشهد العاصمة المصرية تحركات مكثفة، بدءًا بزيارة وفد وزاري برئاسة رئيس الحكومة محمد اشتية، لاقى حفاوة لافتة تجلت باستقبال مصطفى مدبولي، رئيس الحكومة المصرية، لاشتية في المطار، إضافة إلى لقاء عباس كامل، وزير المخابرات، وانتهاء بعقد عدد من الاتفاقيات في مختلف المجالات.
اللافت للنظر أن القاهرة دعت وفدين من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، كلٌ على حدة، وطلبت أن يتشكل الوفدان على أعلى مستوى، فضلًا عن دعوة بشكل موازٍ ومتزامن وفد حكومي يمثل سلطة الأمر الواقع في غزة، وذلك ليس للبحث في المصالحة وتحقيق الوحدة، فهذا الأمر - على ما يبدو - بات وراءنا، وإنما للبحث في تدعيم السلطة في القطاع، والتوصل إلى هدنة مؤقتة طويلة نسبيًا، بما يفتح الطريق لإقامة مشاريع إستراتيجية في سياق تطوير العلاقات، خصوصًا التجارية والاقتصادية والأمنية المصرية مع قطاع غزة؛ حيث بلغت 35% وفق بعض المصادر، و50% وفق مصادر أخرى، من حجم التبادل الكلي للقطاع. وتأتي أهمية ذلك من أن الأموال المتحصلة من المقاصة على البضائع ستعود كاملة إلى سلطة حماس، وهذا يتيح استيرادًا أكبر من دون السيطرة الإسرائيلية الكاملة. والمهم أن المواضيع المدرجة قيد البحث، وستؤثر بشدة في مستقبل الحالة الفلسطينية .
واللافت للنظر أيضًا أن هذا الزخم جاء بعد معركة "ثأر الأحرار"، التي هدد استمرارها بتوسع المعركة بدخول كتائب القسام وكتائب أخرى، فهل هذا هان على أن الأمور باتت، والنتيجة المتوقعة في حال نجاح ما سبق أن تضعف سلطة رام الله، وتقوى سلطة "حماس" وحكومتها، (خصوصًا مع المنحة القطرية، ودخول العمال الغزيين إلى العمل داخل الخط الأخضر) على حساب كتائب القسام؛ لأن تحسين شروط الحصار لا يتم بوصفه عملًا خيريًا، وإنما سيكون له مقابل فلسطيني.
الدلالة الأكبر لما يجري أن الانقسام يتعمق، وأن السلطة مطلوبة (بوصفها محللًا)؛ لأن بعض المسائل يتطلب وجودها، مثل: الوفاء بالتزامات متبقية إزاء القطاع، والمساعدات الدولية التي تمر باسمها، واستخراج الغاز من حقل مارين؛ حيث من الضروري وجود السلطة الشرعية، ووجود مصر لأنها دولة، ومثل هذه الاتفاقات تعقد مع دول، وإسرائيل بحكم أنها الدولة المحتلة.
وحتى تكتمل الترتيبات، من المفترض التوصل إلى هدنة، وبما أن من المستحيل التوصل إلى هدنة دائمة؛ لأنها تفقد "حماس" مبرر وجودها وشرعيتها بوصفها حركة مقاومة، فبالتالي البحث جارٍ عن هدنة طويلة مؤقتة لسنوات عدة.
فليس من المرغوب فيه لكل الأطراف استمرار العدوان الإسرائيلي على القطاع كل أعوام عدة، وفي المدة الأخيرة كل عام، فهذا يخلف خسائر متنوعة بشرية ومادية كبيرة للقطاع، كما يلحق بإسرائيل خسائر متنوعة، خصوصًا لمستوطنات غلاف غزة.
ما يجري تحصيل حاصل
أولًا: نتيجة للسياسة الإسرائيلية التي اعتمدت إستراتيجية لا تقوم بها باحتلال قطاع غزة؛ بسبب: أولًا، الخسائر الذي يمكن أن تلحق بها جراء ذلك. وثانيًا، عدم وضوح الجهة التي يمكن أن تحل محل سلطة "حماس"، فالسلطة في رام الله جراء استمرار الاقتحامات والاغتيالات والاعتقالات وعدم التزام إسرائيل منذ مدة طويلة بالتزاماتها باتفاق أوسلو، ورفضها استئناف المفاوضات والمسيرة السياسية، إضافة إلى الخلافات والانقسامات الفتحاوية، والتنافس على الخليفة والخلفاء؛ باتت أكثر ضعفًا، ولا تستطيع أن تعود إلى غزة، وربما لا ترغب بالعودة، وإذا عادت لا تستطيع أن تحكمها، وحكومة الاحتلال إذا احتلت القطاع لا تريد البقاء فيه. وثالثًا، وهو الأهم، اعتماد إستراتيجية إسرائيلية منذ الانقسام، تقوم على منع قيام دولة فلسطينية، لذا فإن استمرار الانقسام وتعميقه وتعميمه هدف إسرائيلي مركزي معتمد، بغض النظر عن الحكومة الحاكمة في إسرائيل.
ثانيًا: فشل جميع المحاولات والمبادرات الرامية إلى إنهاء الانقسام، لدرجة أصبح هناك نوع من التسليم بالانقسام وتعايش متزايد معه.
ثالثًا: أن الأطراف العربية والإقليمية ينحاز بعضها لأحد طرفي الانقسام، وبعضها الآخر للطرف الثاني، والبعض الثالث غير مكترث ومشغول بهمومه الخاصة؛ ما يؤدي إلى تكريس الانقسام. أما الأطراف الدولية فهي إما مع إسرائيل ظالمة أو مظلومة، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، أو أنها تريد عملية سياسية وتحقيق "حل الدولتين" وإنهاء الانقسام، مثل أوروبا والأمم المتحدة وأطراف دولية عديدة، ولكنها وجدت في الانقسام عذراً لعدم قيامها بما يتوجب عليها القيام به.
تبقى نقطة في منتهى الأهمية وهي: كيف لفصائل مقاومة يقع شعبها وأرضها تحت استعمار استيطاني احتلالي إحلالي عنصري، غير قابل للتسوية التي تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، أن ترضى بهدنة مؤقتة لسنوات، يمكن أن تقود إلى هدنة طويلة الأمد، في ظل حكومة إسرائيلية تتبنى خطة حسم الصراع مع الفلسطينيين بسرعة، وما يعنيه ذلك من استيطان وتهويد أكبر، واغتيالات، وهدم منازل، واعتقالات، وجرائم أكثر، وتهجير داخلي لاستكمال شروط ضم مناطق (ج) تمهيدًا لمرحلة لاحقة يتم فيه تهجير طوعي وقسري خارجي لإعداد من الفلسطينيين؟
قد يُقال إن قطاع غزة يبقى قاعدة إسناد للمقاومة المتصاعدة والمؤثرة أكثر من الصواريخ، وهذا يتيح هامشًا محدودًا للحركة؛ لأن الاحتلال لن يسمح للمقاومة في غزة أن تدعم المقاومة في الضفة وتتصاعد، وتتمتع بمزايا تحسين شروط الحصار والهدنة طويلة الأمد، لذا فهدنة لسنوات في غزة ستقود عاجلًا أم آجلًا إلى هدنة في الضفة.
قد يقول قائل إن المعركة على كل الجبهات قادمة، معركة الحسم والنصر، وستتحقق وحدة الساحات، وهذا مجرد سيناريو، وليس السيناريو الأكثر احتمالًا، فالمنطقة، بل الإقليم كله، تنتشر فيه أجواء المصالحات العربية العربية، والعربية الإقليمية، بما يشمل إسرائيل، والسعي إلى تصفير المشاكل، لدرجة استئناف المفاوضات حول الملف النووي الإيراني.
كما أن المقاومة الفلسطينية على الرغم مما يجمعها مع إيران وحزب الله وهو كثير، فهناك ما يفرقها، فالأولوية الإيرانية مصالح إيران، وهي تدعم وتستخدم القضية الفلسطينية بقدر خدمتها للمصالح الإيرانية، وهذا هو السائد في العالم. فطهران لن تخوض الحرب مع إسرائيل نصرة للقضية الفلسطينية إلا إذا تلاقى ذلك مع مصلحة إيرانية، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا لم نشهد حربًا إيرانية إسرائيلية على الرغم من كل ما قامت به حكومات الاحتلال، واستمرار العداء وتصاعد التوتر بينهما، ولماذا لم نشهد منذ العام 2006 حربًا بين حزب الله وإسرائيل؟! طبعًا، يجب ألا نسقط من الحساب أهمية عدم تكافؤ القوى في ظل العلاقة العضوية التي تربط تل أبيب بواشنطن.
تدرك إيران أنها بحاجة إلى وقت لكي تكون قادرة على حرب تنتصر فيها، أما إذا فُرضت عليها الحرب فلا مفر من خوضها؛ أي لن تبادر إلى الحرب حتى إشعار آخر .
كما من المفترض دراسة جدوى مشاركة فلسطينية في حرب إيرانية إسرائيلية، وليس اعتبار هذا الأمر مفروغًا منه في كل الأحوال، خصوصًا إذا لم يكن مفجرها فلسطين؛ لأن هناك خططًا إسرائيلية موضوعة في حال اندلاع حرب إقليمية لتهجير فلسطينيين من داخل الخط الأخضر ومن الضفة الغربية إلى داخلها والخارج، والحجة في هذه الحالة ستكون أمنية.
إضافة إلى ما سبق، فإن التوصل إلى كل هذه الترتيبات بحاجة إلى عملية ديمقراطية؛ حيث يشارك في مباحثات القاهرة في المنطقتين قوى الأمر الواقع، وهي غير شرعية في ظل عدم إجراء الانتخابات ومن دون توافق وطني، ومن دون مشاركة ولا حتى مشاورة مع الحراكات والقوى والمؤسسات المدنية ولجان العودة وفلسطينيي الخارج والشخصيات الاعتبارية.
لو ولو كما يقال تفتح عمل الشيطان، وكانت هناك وحدة وإرادة فلسطينية على أساس رؤية وإستراتيجيات واحدة يكون من ضمنها الجمع ما بين أشكال النضال، والتركيز على المقاطعة والملاحقة القانونية، والمطالبة بالحقوق، والمقاومة الشعبية بوصفها أسلوبًا رئيسيًا؛ لكانت الفرص التي ستتوفر أكثر من التحديات والمخاطر بكثير، فلماذا لا يتم استغلال موجة المصالحات العربية والإقليمية لتشمل الساحة الفلسطينية؟ هذا بحاجة إلى إرادة ووعي ومبادرة وضغط متواصل، شعبي وسياسي وجماهيري متراكم.
[email protected]