من حقنا أن نسأل عن جهود طوني بلير مبعوث الرباعية الدولية إلى منطقة الشرق الأوسط، ماذا قدم وماذا عمل، وما هي الانجازات التي حققها، والجهود التي بذلها، والصعاب التي ذللها، والمشاكل التي حلها، والخدمات التي قام بها، والأموال التي جلبها، والمعونات التي يسرها، والمشاريع التي قام بها، وهل كان قدم خيرٍ على الفلسطينيين فأعانهم، أم كان نذير شؤمٍ حل بهم، وزاد في معاناتهم.
إنه سؤالٌ منطقيٌ ومشروع بعد أن مضى على وجوده في هذا المنصب الرفيع فترةً طويلة، حيث تم اختياره لهذا المنصب الحساس نظراً لخبرته السابقة، ومعرفته الدقيقة بخبايا الصراع، وأسس الحل، وعلاقاته الواسعة مع مختلف الأطراف، الذين تعرف إليهم وارتبط بهم خلال فترة رئاسته للحكومة البريطانية، وكان محل احترامهم وموضع ثقتهم، فيسرت له عملية الانطلاق ومباشرة العمل.
وقد ظن أطراف الرباعية أنه مؤهلٌ وكفوء، ووسيطٌ عادلٌ ونزيه، وخبيرٌ مجرب ومدرب، وأنه بذلك سيكون قادراً على الحل، وتخفيف الاحتقان والتقليل من التوتر، وسيتمكن من وضع تصوراتٍ مناسبة لحلٍ شاملٍ كاملٍ، يرضي الأطراف، ويحقق السلام، ويقيم العدل، ويقود إلى هدوءٍ واستقرار، وفرض له راتبٌ خيالي، يستر به نفسه ويغطي به بطالته، ويؤمن له حياةً رغيدة، ومستقبلاً مكفولاً، ووضعت تحت تصرفه إمكانياتٌ كبيرة، وتسهيلاتٌ كثيرة، وسمي له مساعدون كبار، وموظفون مركزيون، وخبراء مطلعون، وأمنيون متخصصون.
يحق لنا أن نسأل في ظل زيارة بلير الاستعراضية القصيرة إلى قطاع غزة، التي جاءت متأخرة بعد أن درست بعنايةٍ ودقةٍ، وتم التحضير لها جيداً، وحددت الوجوه التي سيراها والأشخاص الذين سيقابلهم، والأماكن التي سيزورها، لئلا تكون هناك صدفةٌ أو لقاءٌ غير منظمٍ ومقصود، فهي ليست زيارة لإضفاء شرعية، أو تطهير صفحة، أو تبرئة جماعة، إنما لها أسبابها الخاصة، وظروفها الاستثنائية، علماً أنها لا تتم بغير الموافقة الإسرائيلية، وربما تكون الحكومة الإسرائيلية طرفاً فيها، ومنظمةً لها، وهي التي أشرفت على تفاصيلها ووضع برنامجها، وتحديد توقيتها وضبط مدتها.
هل قدم بلير شيئاً لغزة وأهلها، ولفلسطين وشعبها، غير أنه شهد ثلاثة حروبٍ إسرائيلية ضروس على غزة، وتابع عبر وسائل الإعلام القصف الإسرائيلي المجنون على القطاع، ورصد الجيش الذي موله وسانده، وساعده وأيده، كيف يجتاح غزة ويدمرها عدة مراتٍ، ويخرب المؤسسات والمرافق التي أشرف الاتحاد الأوروبي وأطراف الرباعية على بنائها وتأسيسها وتشغيلها، وهي التي أنفق عليها عشرات ملايين الدولارات، لتعود بالنفع على سكان القطاع، ولكن جيش العدو جعلها يباباً وخراباً بدباباته وطيرانه الحربي.
فهل تراه يعرف عدد الفلسطينيين الذين قتلتهم آلة الدمار الإسرائيلية، أم أنه يعرف عدد البيوت المهدمة، وحجم الدمار الذي خلفه العدوان، وأعداد السكان الذين يعيشون في العراء، بعد أن دمر العدوان مساكنهم وبيوتهم، أم أنه يعرف مدارس الأونروا التابعة للأمم المتحدة التي دمرها الطيران الحربي الإسرائيلي، وقتل تلاميذها واللاجئين إليها، والمحتمين تحت علم الأمم المتحدة فيها، أم أنه يعلم أعداد اللاجئين إلى المدارس من اللاجئين الفلسطينيين القدامى، الذين لا يجدون مأوى ولا مسكن، ولا طعام ولا ملبس، أم أنه يعرف عدد الأطفال اليتامى والنساء الأيامى والأرامل والمعوقين والمشوهين والمشردين.
لكنه بالتأكيد يعرف عدد القتلى الإسرائيليين، ويعرف المستوطنات المستهدفة، وعدد الصواريخ التي سقطت على المدن والبلدات الإسرائيلية، والنتائج التي تسببت بها، ويصغي إلى المسؤولين الإسرائيليين وهم يسردون عليه أسماء ضحاياهم، وحجم خسارتهم، والأضرار التي لحقت لهم، ويعرضون عليهم صور الأطفال والمسنين، والمرضى والمصابين وهم على الأسرة في المستشفيات، وهو لا يتردد في زيارتهم، وفي حمل باقة وردٍ إلى كلٍ منهم، متمنياً لهم السلامة والعافية، ومتناسياً أضعافهم على الجانب الفلسطيني، ممن لا يجدون أسرةً ولا مستشفيات، ولا أدويةً ولا علاجاً.
طوني بلير سليل الامبراطورية البريطانية، وابن بريطانيا العظمى التي أسست لنكبة الشعب الفلسطيني، ومهدت السبيل لضياعها وتوطين اليهود فيها، رجلٌ لا يستطيع أن يتخلى عن ماضيه، ولا أن ينسى جرائمه، ولا دوره في استعداء الأمة، والاعتداء على كرامتها وسيادتها، وهو السابق في الإساءة، والمتقدم في الإفساد، والمثخن في القتل، والمتورط في الجريمة، وإن بدا أنه مصلحٌ ومحسنٌ، ووسيطٌ وحكم.
إذ لا ينسى العرب والمسلمون هويته وعقيدته السياسية، وأفكاره العنصرية الفاشية، التي شكلها مع سيده الأول في البيت الأبيض، جورج بوش الأب والأبن، فقد كان هو شيطان المرحلة، وأخطبوط الحقبة، التي خطط لها جيداً، وأحكم نسج خيوطها، وربط أطرافها، وكذب وخدع واحتال، واستخدم عواصم العالم كلها لتنفيذ مخططاته، والوصول إلى غاياته، فجعلها في حلفٍ شيطاني يقوده مع واشنطن، وينسق فيه مع الكيان الصهيوني لما يحقق مصالحهم، ويضر بالمصالح العربية والإسلامية.
طوني بلير جزء من المشكلة، وليس جزءاً من الحل، إنه سببٌ في الأزمة وعاملٌ فيها، ومفجرٌ أو مسعرٌ لها، وشاهدٌ ودليلٌ عليها، وليس وسيطاً للحل، ولا ساعياً للمساعدة، ولا صادقاً في الوساطة، وهو أقرب إلى العدو دائماً، وأدعى لفهمه والتعاون معه، وتبرير مواقفه وتسويق سياسته، ويدعو إلى مساعدته وعدم مقاطعته، ويحذر من الضغط عليه أو حشره وإكراهه.
وهو أبعد ما يكون عن الفلسطينيين ومصالحهم، إذ لا يهمه أمرهم، ولا يعنيه شأنهم، ولا يقلق على مصالحهم، ولا يخاف على حياتهم، ولا يغضب من أجلهم، ولا يهدد باسمهم، ولا يتوعد انتقاماً لهم، وهو يصدق الرواية الإسرائيلية ويكذب الحكاية الفلسطينية، ويفهم رفض الحكومة الإسرائيلية قيام دولةٍ فلسطينية، ويرى أنها ستكون خطراً عليهم، ويستنكر على الفلسطينيين استعجالهم وسعيهم لإعلان الدولة، وفرض السيادة، ويرى أنهم يسيئون إلى أنفسهم وقضيتهم، ويخسرون حلفاءهم والمؤيدين لهم، وينصحهم بالصبر والتريث، ثم بالقبول بما تمنحهم إياه الحكومة الإسرائيلية، كونه أفضل ما يمكن، وغاية ما يستطيع الفلسطينيون تحقيقه، فلا تنتظروا من عاجزٍ حلاً، ولا تتوقعوا من متآمرٍ فرجاً، ولا من غرابٍ بشرى، ولا تأملوا من شريكٍ في الجريمة عدلاً وانصافاً، فلا مرحباً به ولا سهلاً.
[email protected]