بدت اتفاقية أبراهام للسلام الموقعة بين دولتي الإمارات العربية المتحدة والبحرين من جهة والكيان الصهيوني من جهةٍ أخرى، كأنها فتحٌ إسرائيلي كبيرٌ وانتصارٌ سياسيٌ مهولٌ، ما كانوا يحلمون به علناً وفي وضح النار، وإن كانوا قد اعتادوا عليه سراً وفي الخفاء، فقد مكنتهم الاتفاقيات الجديدة من كشف ملفاتهم السرية، وإخراج كل ما كان مخفياً تحت الطاولة، والإعلان عما كان محظوراً سابقاً وممنوعاً عليهم، مما ساعدهم على سرعة الإنجاز وكثافة العمل، وانتهاز الفرصة وإثبات القدرة، والحضور المباشر والظهور المكشوف، والمنافسة القوية، والتطوير المستمر.
أدت الاتفاقيات الموقعة إلى انتعاش الحركة التجارية مع الكيان الصهيوني، ونشطت حركة الطيران التجاري والسفن العملاقة ما بين المياه العربية والموانئ الإسرائيلية في أسدود وحيفا وإيلات، المحملة بمختلف السلع التجارية الدولية الواردة إلى الكيان الصهيوني من المناطق الحرة في دولة الإمارات، والعائدة إليها بمختلف المنتجات الإسرائيلية للتسويق المحلي فيها، أو لإعادة التصدير منها والاستفادة من منطقتها التجارية الحرة، ما أدى إلى إغراق الأسواق العربية بمختلف أنواع المنتجات الإسرائيلية، وعلى وجه الخصوص منها المعدات الإليكترونية وصناعات التكنولوجيا الحديثة، التي وصفها البعض مبرراً دخولها إلى المنطقة العربية، بأنها متقنة الصنع وعالية الجودة، وتتمتع بمواصفاتٍ دوليةٍ مميزة.
لعل الشركات الإسرائيلية العاملة في مجال التقنيات العالية والتكنولوجيا المتطورة، قد سبقت الدبلوماسية السياسية الرسمية الإسرائيلية في التطبيع مع العديد من الدول العربية، إذ نجحت في فرض حالة من التطبيع التقني والتكنولوجي يصعب على المستفيدين منها التخلي عنها، سواء لجهة الحاجة إليها، أو بسبب المردود المالي الناتج عن بيعها، خاصةً أن المتحكم في الأسواق هو رأس المال الجشع وأصحابه المتوحشون، الذين يفتقرون إلى القيم والأخلاق الإنسانية، ولا يتطلعون إلا إلى المكاسب والمنافع المادية، ولو كانت على حساب الإنسان وقيمه العليا.
كثيرةٌ هي السلع التكنولوجية التي تستطيع إسرائيل بيعها إلى الدول العربية، منها تقنيات الكمبيوتر العالية، ومستلزمات الشبكات الخليوية لتقديم خدمات الجيل الرابع والخامس من الاتصالات، وأجهزة الحماية والرصد والمراقبة، والتقنيات الطبية الحديثة، والمختبرات العلمية المتطورة، فضلاً عن برامج الحوسبة المختلفة التي تحتاج إليها كل مجالات العمل المختلفة، المدينة والعسكرية والأمنية وغيرها، وبرامج الطيران ومختلف الخدمات الرقمية التي باتت سمة العصر الحديث.
إلا أن سوق التجسس والنشاط الأمني هو أكثر ما يبرع به الكيان الصهيوني، الذي وجد –وللأسف- من يحرص عليه ويطلبه من البلاد العربية، التي تتطلع إلى الاستفادة من التفوق النوعي الإسرائيلي في إحكام السيطرة على منافذ الدولة وشعوبها، ومتابعة نشاط مواطنيها وسلوك وحركة بعض المشتبه بنشاطهم ودورهم في العام في المجتمع، إذ تستطيع إسرائيل تقديم عددٍ من البرمجيات السرية التي يصعب اختراقها والتحكم بها إلا من خلال محركها أو صانعها، ما يجعلها قادرة على متابعة ومواكبة المطلوبين، واستدراك الأخطار وإحباط أي نشاطٍ محتملٍ، مما قد يوصف بأنه معادي.
يبدو أن الكيان الصهيوني الذي يلقى دعماً مالياً وعلمياً كبيراً من الولايات المتحدة الأمريكية، التي خصصت له هذا العام قرابة ملياري دولار للاستثمار في مجال التجسس السيبراني، تشجعه على الحلول محل الصين في البلاد العربية، ومنافستها في أسواقها التاريخية، والتضييق عليها لطردها منها، مقابل تقديم خدماتٍ أكثر تميزاً وتطوراً من منتجاتها، الأمر الذي مكن الكيان الصهيوني من توريد معداتٍ حديثةٍ كالطائرات المسيرة، وأجهزة الدفاع الإليكتروني، وروبوتات الحماية والحراسة، وغيرها من الأجهزة الحديثة التي بات من الصعب على المستفيدين منها التخلي عنها.
يعتبر الدافع الأمني والعسكري هو المحرك الأساس لمحاولات الاختراق الاليكترونية والتطبيع التكنولوجي مع الدول العربية، فهي بالقدر الذي تقدم فيه خدماتٍ إلى الجهات المستفيدة منها، فإنها تحصل بالمقابل إلى جانب المردود المادي المغري كثيراً، على كمٍ كبيرٍ من المعلومات والبيانات السرية والخاصة والعامة، التي تستفيد منها بعد إعادة تحليلها وتوظيفها، في خدمة استراتيجيتها الأمنية والعسكرية، علماً أنه يوجد خبراء وفنيون إسرائيليون يشغلون هذه المعدات، أو يشرفون على تشغيلها ويراقبون عملها، أو يقومون بأعمال الصيانة والتطوير لها، مما يعني أن العين الإسرائيلية حاضرة دائماً ولا تغيب.
نتيجةً لهذه المنافع القومية والمادية، والعلمية والمعنوية، التي فرضت إسم الكيان كواحدة من أهم الدول العاملة في المجال السيبراني والحقول التكنولوجية، نجد أن الجيش الإسرائيلية والأجهزة الأمنية المختلفة، والشركات التجارية المدنية والعسكرية، تعلن عن مسابقاتٍ لأمهر المهندسين وألمع الطلاب من الشباب، للالتحاق بهذه الأسواق الرائدة والرائجة، التي تحقق أعظم المنافع الإسرائيلية القومية العامة والفردية الشخصية.
لا يترك الإسرائيليون باباً إلا وينفذون منه لمحاولة إحداث خرقٍ في عالمنا العربي، لربط الدول العربية بها، وتطويعها وتطبيع علاقاتها معها، وجرها إلى مربع التنسيق الأمني معها، وهو التنسيق الذي يفضي إلى تنسيقٍ شاملٍ في مختلف المجالات، وهم في كل هذا يتطلعون إلى مصالحهم الخاصة، ويعملون لخدمة مشاريعهم وتثبيت كيانهم، وتأمين مستقبلهم، ولو كان على حساب مستقبل شعوب المنطقة العربية ومقدراتها القومية، فهل ندرك خبث مسعاهم وننتبه، أم نبقى نغط في نومنا العميق فلا نصحو إلا بعد أن يعم الخراب بيوتنا ويسلبون خيراتنا.
[email protected]