ما كان يقوله العرب والفلسطينيون قديماً، بات يقوله الأوروبيون والأمريكيون جديداً، لكن أحداً لم يكن يصغِ إلى العرب والفلسطينيين أو يصدقهم، أو يلقِ بالاً لحديثهم ويهتم لكلامهم، عندما كانوا يصفون دولة الكيان الصهيوني "إسرائيل" بأنها عنصرية وعدوانية، وأنها تمارس الإرهاب وتعتمده، وترعاه وتنظمه، وأنها سبب التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة منذ أن نشأت وتمكنت، وتكونت واستقوت، وهي التي تتسبب بأفعالها الخبيثة وممارساتها البغيضة في نشوب الحروب وافتعال المعارك، واشتعال المنطقة كلها، ولولاها لاستقرَ السلام في منطقة الشرق الأوسط، ولعَمَّ الهدوء والاستقرار، ولازدَّهرت المنطقة عمرانياً ومدنياً، وانتعشت اقتصادياً وتجارياً، ولَأَمن سكانها واطمأن أهلها، ولكن وجودها الأثيم في المنطقة ككيانٍ استيطاني سرطاني كرَّس العدوان وأسس للكراهية، وأدخل المنطقة كلها في أتون حربٍ لا تنتهي، ومرجل صراعٍ لا يهدأ.
اليوم آمن الغربيون الأوروبيون على اختلافهم، وقَرَّ في أذهان الأمريكيين، جمهوريين وديمقراطيين، أن "إسرائيل" دولةٌ مزعزعةٌ للأمن في المنطقة، وأنها عنوان التوتر ومصدر القلق، وأنها بسياساتها العدوانية ضد شعوب المنطقة تعرض مصالحهم للخطر، وتقحمهم في صراعاتٍ لا دخل لهم فيها، وكان بإمكانهم إن نأوا بأنفسهم بعيداً عنها، وتوقفوا عن دعمها ومساندتها، أن ينجوا من تداعيات سياساتها العدوانية، التي مضى عليها أكثر من سبعين عاماً وما زالت تمارس ذات السياسة، التي ثبت بالتجربة أنها لا تحقق لهم الأمن، ولا تجلب لهم السلام، وإنما تزيد في قوة النار المشتعلة، وتوغر القلوب المتضررة، وتفجر من حينٍ إلى آخر حروباً جديدةً ومعارك كبيرة، يذهب ضحيتها آلاف المدنيين قتلاً وترويعاً وتهجيراً.
اختلف الخطاب الرسمي الدولي تجاه الكيان الصهيوني، وانتهت الأحلام المعسولة التي عاشها الإسرائيليون في ظل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، التي منَّوا بها أنفسهم بتحقيق أحلامهم القديمة وتنفيذ مشاريعهم الكثيرة، وبات المؤيدون تاريخياً لها يعيدون قراءة مواقفهم ومراجعة سياساتهم، ويطالبون بتبني سياساتٍ جديدةٍ تخفف عنهم، وتعفيهم من المسؤولية عن تحمل تبعات أخطاء الكيان وجرائمه، وارتفعت اللهجة الناقدة لهم والمختلفة معهم، وهي وإن بدت محدودة إلا أنها آخذة في الاتساع والانتشار، ولعل النبرة الحادة والتحذير المتكرر على لسان الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، يؤشر إلى أن المزاج الأمريكي لم يعد يقبل بالسلوك الإسرائيلي، ولا يستطيع الدفاع عنه، خاصةً بعد عدوانه الأخير على قطاع غزة، وإجراءاته التعسفية ضد سكان الأحياء والبلدات الفلسطينية المقدسية.
لم تعد الإدارة الأمريكية تصغي إلى الشكوى الإسرائيلية، أو تستجيب لها بالكلية دون مناقشةٍ أو مراجعةٍ، فها هي تدين سلوكهم في حي الشيخ جراح، وترفض محاولاتهم اقتحام المسجد الأقصى، وترد اعتراضهم على افتتاح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وتعود إلى سياسة دعم الأونروا والمؤسسات الفلسطينية، وترسل إلى المنطقة مندوباً غير مرغوبٍ به إسرائيلياً، وموفدين لا يحضون بالموافقة الإسرائيلية، وتسمي سفيراً أمريكياً جديداً خلفاً لدافيد فريدمان، لا يحمل العقيدة الصهيونية ولا يؤمن بها، ولا يدافع عنها كسلفه، بل يريد أن يعيد إحياء مسار المفاوضات وحل الدولتين.
أما بريطانيا التي منحت اليهود وعد بلفور، وسلمتهم فلسطين على طبقٍ من ذهبٍ، فقد سار في شوارع عاصمتها لندن، إبان العدوان الإسرائيلي على القدس وقطاع غزة، مسيرةٌ مشهودةٌ، شارك فيها أكثر من مائتي ألف متظاهر، جلُهم من البريطانيين الأصليين، وليسوا من المهاجرين العرب أو المجنسين الملونين، وفيها حملوا شعاراتٍ صريحةٍ ضد الممارسات الإسرائيلية، وضد سياسات حكومتهم الداعمة للكيان الصهيوني، ودعوها إلى وقف تقديم كافة أشكال الدعم لهم، والامتناع عن تزويدهم بالسلاح والأدوات القتالية.
والحال نفسه تكرر مع ألمانيا التي دعت مستشارتها أنجيلا ميركل إلى وقف كافة أشكال العنف الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وطالبت بالانفتاح على كل القوى الفلسطينية ومنها حركة حماس، وسمحت بتنظيم عشرات المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين والمعارضة للإسرائيليين في مختلف مدنها وأكبر ميادينها.
وفي الوقت الذي اجتاحت فيه المظاهرات العديد من العواصم الأوروبية، فقد عمدت بعض حكوماتها وبرلماناتها إلى إصدار قراراتٍ وتشريع قوانين تمنع تقديم الدعم للكيان الصهيوني، أو تعويض ما يسمى بضحايا المحرقة اليهودية، ورغم الاعتراضات الإسرائيلية الرسمية، فقد مضت الحكومات الغربية في تنفيذ قراراتها، والالتزام بقوانينها، التي ترى وجوب الكف عن دعم دولةٍ تمارس العنف والإرهاب ضد شعبٍ آخر، تحتل أرضه وتطرده من دياره وتحرمه من حقوقه.
أدركت أوروبا شعوباً وحكوماتٍ ولو متأخراً، صدق الرواية الفلسطينية، وكذب الرواية الإسرائيلية، وساعدها في المباشرة أو التهديد بتغيير سياستها مع الكيان الصهيوني، التغيرُ اللافت في موقف الإدارة الأمريكية، وموقف الحزبيين التاريخيين فيها، وأعضائه في كلٍ من مجلسي النواب والكونجرس، ويبدو أن المستقبل القريب سيشهد تغييراتٍ أعمق وتحولاتٍ أكبر في عقلية الأمريكيين والأوروبيين، الذين ما عادوا يستطيعون الدفع من جيوبهم، ومن حساب رفاهيتهم وسعادتهم، ضريبة الظلم والاحتلال والعدوان الإسرائيلي.
[email protected]