حقّقت القائمة المشتركة إنجازًا انتخابيًا كبيرًا باستعادتها لقوتها البرلمانيّة، لكنّ الأهمّ هو قدرة المشتركة من خلال حملتها الانتخابيّة على استعادة ثقة شعبنا بالداخل بنفسه وبقوته وبقدرته على التأثير وترجمة كلّ هذا بمشاركة فاعلة ودعم جارف لها. لم يتحقّق هذا الإنجاز بشكل عفويّ، بل هو نتيجة لعمل صحيح وجهود جبّارة قامت بها الأحزاب والقيادات والكوادر، ولصواب الاستراتيجية الانتخابيّة التي وضعناها للقائمة المشتركة بعد إعادة تركيبها، فماذا كانت هذه الاستراتيجية؟
في البداية، لا بدّ من التشديد على أنّ الاستراتيجيّة الانتخابيّة، بمركباتها الدعائيّة-الإعلاميّة والتنظيميّة-الميدانيّة، تهدف بالأساس إلى تحقيق إنجاز انتخابيّ وفق دراسة وتحليل للوضع القائم والاستطلاعات واتجاهات الرأي العام توضع على أساسهما أهداف قابلة للتحقيق، وتعمل من خلال تحديد رسائل انتخابيّة معيّنة موجّهة بشكل مكثّف لجمهور هدف معيّن بحيث تستهدف تغيير موقفه وسلوكه ودفعه نحو التصويت للقائمة.
جاءت انتخابات أيلول 2019 بعد أشهر قليلة من انتخابات نيسان 2019، حين شهدنا أقلّ نسبة تصويت عند المواطنين العرب تاريخيًا 49٪، أذ وصلت إلى 63 ٪ في انتخابات 2015، كما شهدنا أعلى نسبة تصويت للأحزاب الصهيونيّة منذ عقود إذ قاربت نسبتها 30 ٪ من المصوّتين العرب. حين وضعنا الاستراتيجية الانتخابية لانتخابات أيلول 2019 وضعنا الأهداف التالية: 60 ٪ نسبة تصويت و80 ٪ نسبة التصويت للمشتركة من المصوتين العرب.
كانت المعطيات التي بين أيدينا غير مطمئنة، ولم يكن لدينا الكثير من الوقت، كانت هناك أزمة ثقة عميقة، ليس بالأحزاب فقط، بثقة الناس بأنفسهم وبقدرتهم على التأثير وبجدوى الانتخابات والعمل السياسيّ عمومًا، والأسباب لذلك كثيرة، ذاتيّة وموضوعيّة. في الاستطلاعات التي قمنا بها لفحص احتمالات التصويت، وأسباب ودوافع التصويت للكنيست، والعلاقة والموقف من الأحزاب والوحدة، حدّدنا جمهور هدف الحملة كالتالي: الجمهور غير المسيّس، البعيد عن الأحزاب وطروحاتها السياسيّة والفكريّة، الساعي للوحدة، والمهتم بأن يزيد تمثيلنا وتأثيرنا وتحسّن مكانتنا كعرب. بكلمات أخرى، الإنسان الذي يريد أن يكون عرب أكثر، عددًا وتأثيرًا وحضورًا، في الكنيست، ويريد للعرب أن يكونوا موحّدين ولا يرغب في التماهي مع حزب بعينه بل مع العرب ككل.
لقد بدأنا الحملة بإيقاع هادئ، وقرّرنا أن نضع ثقلنا في الأسبوعين الأخيرين قبل الانتخابات، لكي نشكل ضغطاً اعلامياً ودعائياً وميدانياً ذا تأثير أقوى في الفترة التي يتخذ فيها الناخب القرار بالتصويت او بعدمه.
انطلقنا بشعارات المرحلة الأولى ألتي سعت أن توصل رسائل الحملة حول أسباب التصويت وجدواه لجمهور الهدف بشكل صحيح وبسيط وواضح ومقنع، فلا يختلف حولها اثنان، شعارات من دون فذلكات أو ألعاب لغويّة أو "نغاشة زائدة"، ومن دون شعارات أيديولوجيّة كبيرة وبعيدة عن واقع الناس، فاخترنا شعارات: "مشتركة أكثر، يمين أقل"، "مشتركة أكثر، تأثير أكبر"، "مشتركة أكثر، مكانة أعلى"، بالإضافة إلى موضعة الوحدة "وحدتنا قوة" كمحفّز أساسيّ، وهي شعارات تجيب بشكل بسيط وواضح عن سؤال الناس: لماذا يجب أن نصوّت للمشتركة؟ وهي تعتمد على الاستطلاعات التي قمنا بها لفحص أهم دوافع التصويت عند جمهور الهدف، ومرتبطة بالمشتركة وبالتصويت بشكل مباشر.
سعت هذه الشعارات إلى تحويل الرأي العام من نقاش حاد وانتقادات إلى التركيز في أهمية زيادة التمثيل السياسيّ من خلال تبسيط المفاهيم السياسيّة التي طالما استخدمتها الأحزاب. وكشخص قريب من الأحزاب وأكنّ لها حبًا واحترامًا، أتفهّم رغبة الناشطين الحزبيين بأن تكون الشعارات أكثر ثوريّة بل حتى أشاطرهم هذه الرغبة، لكن الحكم على الأمور يجب أن يعتمد على حكم موضوعيّ ومن منظور مهنيّ، والإصغاء إلى الآراء المختلفة، وأخذ عوامل كثيرة في عين الاعتبار. شعارات الحملة بقيت في إطار البرنامج السياسيّ للمشتركة وأحزابها، وضمن خطابها المشترك الذي يدمج بداخله خطابات الأحزاب المكوّنة لها، وهذه برأيي ثمرة التعددية وهي كما أؤمن نقطة قوة وليست نقطة ضعف. صحيح أنّه بالنسبة لنا كطاقم إعلاميّ ودعائيّ هذه مهمة صعبة وتحدٍّ بحدّ ذاته، لكننا نجحنا فيه لأنّ المشترك، فعلاً، أكبر وأهم.
كذلك، سعت هذه الشعارات أيضًا إلى إعادة ملاءمة التوقعات مع الناس حول العمل البرلمانيّ وأهمية الوجود العربيّ في الكنيست، إذ أنّ الفجوة في التوقعات كانت من مسبّبات أزمة الثقة وتراجع التأييد، لذا كان من الواضح لنا أنه لا يمكن استعادة الثقة من خلال توزيع الوعود الكبيرة والمستحيلة التحقيق ولا بالبطولات الكلاميّة والبرامج الخارقة، بل بتوضيح الأسباب المقنعة، وبالتعامل مع الأمور بحجمها الصحيح، أنّ الكتلة البرلمانيّة هي وسيلة أساسيّة وضروريّة لشعبنا من أجل زيادة التأثير السياسيّ ومواجهة اليمين المتطرّف ورفع مكانتها السياسيّة الجماعيّة، من ضمن وسائل سياسيّة عدّة.
شعارات المرحلة الثانية من الحملة كانت "مليون صوت عربي، إحنا قوّة" وهو شعار أكّد قوتنا الانتخابيّة وضرورة تحويلها إلى قوّة سياسيّة، وهي مرحلة تمكين جماعيّ ورفع للمعنويات والثقة بالذات، وتحفيز على التصويت، وقد تلقّف الجمهور هذه المرحلة بتفاعل رهيب وابتدأ التجاوب مع رسائل الحملة بالتصاعد حتى يوم الانتخابات. لقد خضنا حملة مركّزة ومكثّفة أنتجنا فيها الحملة وموادها خلال فترة قصيرة جدًا، مستخدمين كلّ الوسائل الإعلاميّة، ووصلنا إلى الشباب، وإلى كلّ البلدات، وفي المحصّلة شهدنا التحرّك الكبير لجماهيرنا التي لبّت النداء يوم الانتخابات.
لقد فكّرنا خلال هذه المرحلة باستخدام شعار "لا للأحزاب الصهيونيّة" لكننا وصلنا إلى نتيجة مفادها أنّ النفي والسلب لن يأتي بنتيجة، وأنّ الجمهور المستهدف لا يريد لغة الأمر والإرغام، ولم نكن نريد أن تكون هذه الأحزاب خَيارًا أصلا للجمهور ولا أن نبدو خائفين منها ونعطيها وزنًا، وأدركنا أنّ إعادة الناس لبيت المشتركة يتطلب روحًا إيجابية واثقة، بقوة الهويّة الإيجابيّة والانتماء ، والمدّ الجماهيريّ المؤيد للمشتركة كقائمة جامعة "كلنا مشتركة"، ليكونا كفيلين بكنس الأحزاب الصهيونيّة من مدننا وقرانا، وثبت أن قرارنا كان صائبًا.
لقد كانت هناك العديد من الحملات الجماهيريّة التي شجّعت التصويت عند المواطنين العرب، منها ما أثّر سلبيًا ومنها ما كان ذو توجهات إيجابية. لكن برأيي في نهاية الأمر ما يُخرجَ الناخب من بيته هو دافعيته للتصويت للقائمة التي ينتمي لها، التي تمثّل هويته وانتماؤه وقناعاته، وليس من أجل التصويت عمومًا، لذا فحملة المشتركة كانت اللاعب الأساسيّ في رفع نسبة التصويت، وهذا ما تثبته الاستطلاعات وفق المحور الزمني.
وإذا كنّا نتحدّث عن ثقتنا بنفسنا كشعب، فعلينا أن نكون واثقين بقدرتنا على إدارة حملات انتخابيّة استطاعت مواجهة "الساحر" بنيامين نتنياهو بنفسه، فقلبنا السحر على الساحر، واستطعنا تحويل تحريض نتنياهو من تحريض ضدنا يسعى إلى تقليص التصويت عند العرب إلى عامل محفّز على التصويت والتأثير بشكل فعليّ. وكذلك بمواجهتنا لنتنياهو يوم الانتخابات، خضنا مواجهة قويّة أحبطت مخططاته التحريضيّة، بفضل تركيز جهودنا ويقظة أبناء وبنات شعبنا.
كذلك، أدركنا أن أعداد كوادر المشتركة يجب أن يزيد وأن تفعيل الناس أمر هام جدًا لرفع نسبة التصويت، لذلك قمنا بحملة "خذ/ي دورك" التي حفّزت الناس على أخذ دور في تحفيز محيطهم الاجتماعيّ على التصويت ما مدّ العمل التنظيميّ يوم الانتخابات بكوادر شعبيّة ساهمت بتحقيق الإنجاز.
أشكر الأحزاب على الثقة والدعم والمهنيّة، وأشكر الطاقم الذي عمل ليلًا نهارًا في سبيل إنجاح الحملة من منطلقات وطنيّة وانتماء عميق لشعبنا.
أكتب هذا موثّقًا لهذه التجربة الانتخابيّة المثيرة لأهمية توثيق وتقييم التجارب والتعلّم منها. ذكرت كلما أستطيع ذكره، ووفّرت الكلام عمّا لا أستطيع الإفصاح به من خطوات إعلاميّة، علّنا نستفيد.
إحنا قوة. وكما كانت حملتنا للبرلمان قوية، نريد لحملاتنا القادمة من أجل قضايانا الوطنية والاجتماعية ونضالاتنا الميدانية أن تكون بذات القوة.
[email protected]