منذ الساعة الأولى لبث الشريط الذي زعم تنظيم الدولة الإسلامية أنه يوثق ذبح الصحفي الأميركي جيمس فولي، بدأت طبول الحرب تقرع في عواصم غربية، ومع أن شكوكا عديدة وملحّة تدور حول صحة الشريط، فإن قادة الدول الغربية ووسائل الإعلام اعتبرته صحيحا بطريقة مريبة، وكذلك الحال مع شريط ذبح الصحفي الثاني ستيفن سوتلوف، في حين يتناقل ناشطون حول العالم شكوكا كثيرة تكاد تجزم بأن الشريطين مزيفان.
وبالعودة إلى الشريط الأول، فلعل أول ما يلفت نظر المشاهد أن فولي كان يؤدي دور البطولة وليس الضحية فحسب، حيث يتلو بيانا مطولا وبأداء مسرحي منقطع النظير، ويبدو من تتبع حركة عينيه أنه كان يقرأ نصا من شاشة العرض الآلي التي يستخدمها مذيعو نشرات الأخبار، كما لم يستطع إقناع الكثيرين -وعلى رأسهم المتخصص في سياسات الشرق الأوسط بجامعة درهام كريستوفر ديفيدسون- بأنه كان خائفا أو مرتبكا، حتى لو كان لا يعلم أنه سيُذبح بالرغم من وجود السكين في يد الشخص المقنّع بجانبه، حيث لم يظهر على وجهه أي أثر للخوف عندما بدأ "القاتل" بالتنفيذ.
أما المقنّع نفسه الذي أدى دور القاتل فكان أكثر غموضا، إذ لا يحمل أيا من ملامح الشخصيات الجهادية المعتادة، بل كان أكثر شبها بممثلي هوليود من حيث أدائه الخطابي ولكنته البريطانية وإيماءاته ووقفته. وقد وضع ناشطون إشارات استفهام إزاء الجودة العالية للفيلم الذي تم تصويره بكاميرتين ومايكروفونات مثبتة على الأعناق، وتساءلوا عن سبب غياب صوت الرياح وأثر الشمس الحارقة والغبار بالرغم من الوجود المفترض في الصحراء.
ومع تزايد هذه الأسئلة، بث ناشطو حركة "احتلوا وول ستريت" الأميركية صورة تظهر ممثلين يؤديان دور القاتل وفولي داخل استديو بخلفية خضراء، وهي تقنية تسمح للمخرج باستبدال الخلفية بصورة للصحراء خلال المونتاج، بينما لم تثبت بعد صحة الصورة.
قتل غير متقن
ومن أهم التساؤلات أيضا أن السكين التي حركها "القاتل" على رقبة "الضحية" ست مرات لم تترك أثرا للدم، حيث فحص ناشطون غربيون اللقطة بالسرعة البطيئة وبتعديل درجات اللون والسطوع والتباين في أقصى الدرجات ليثبتوا عدم خروج نقطة دم واحدة، في حين أراد صانعو الفيلم إقناعنا بأن عملية الذبح تمت بعد أن قطعوا اللقطة ليعرضوا رأس الضحية مفصولا عن الجسد في قفزة مونتاجية غير مبررة.
وبعد المقارنة بأفلام أخرى بثها التنظيم لأعمال ذبح حقيقية، نكتشف أن الدم كان ينفر من نحر الضحية منذ الحركة الأولى، ولم يسبق للتنظيم أن اقتطع عملية الذبح -التي يصعب تزويرها- في أفلامه.
وفي اللقطة الأخيرة، يظهر الجسد ممددا والرأس موضوعا على الظهر، وثمة أسئلة أخرى هنا عن سبب صعود الدم إلى الأعلى ليلطخ الوجه دون أن ينزل إلى الجسد والأرض ويد القاتل. ونشر ناشطون دلائل على أن الرأس المقطوع ليس سوى قناع مطاطي، مثل خلو الفم من الأسنان.
ومن العجيب أن تتكرر معظم الملاحظات السابقة في شريط الذبح المزعوم للصحفي الثاني ستيفن سوتلوف الثلاثاء الماضي، حيث لم يُظهر أيا من ملامح الخوف سواء خلال قراءة البيان أو عندما شرح المُقنّع بالذبح، بل استنكر ناشطون أن تكون ردة فعل رجل يُذبح هي رفع ساقه المنثنية في تعبير عن الألم قبل أن تُقطع اللقطة بالمونتاج.
أسئلة معلقة
علاوة على ما سبق، ما زالت هناك أسئلة معلقة، وأهمها: كيف وصل فولي المختطف منذ عام 2012 إلى يد تنظيم الدولة؟ فقد نشر ناشطون مقارنات تفصيلية بين وجه الضحية ووجه فولي ليؤكدوا وجود اختلافات جوهرية بينهما ولا سيما في بنية الجمجمة نفسها، فضلا عن الملامح وبعض الندوب في البشرة، كما أظهرت المقارنات اختلافا في الصوت والأداء.
واكتشف ناشطون أميركيون في السيرة المهنية للصحفي فولي أنه عمل سابقا في وكالة تابعة للخارجية الأميركية، وتساءلوا عما إذا كانت له علاقة بجهات استخبارية؟ ما يعني أنه قد يكون متواطئا في "فبركة" الشريط، وقالوا إن والديه تحدثا للصحفيين بعد "قتله" بملامح باردة لا تنبئ بالحزن والصدمة.
ويقدم لنا التاريخ نماذج كثيرة لحروب تم افتعالها بعد إقناع الشعوب بخدع مماثلة، إذ بررت إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن غزوها للعراق عام 2003 بإشاعات عن تورط بغداد في تطوير أسلحة دمار شامل وفي التحالف مع تنظيم القاعدة، كما سارع باراك أوباما لإدانة "ذبح" فولي ومن بعده سوتلوف مباشرة، وطالب بتشكيل تحالف دولي لمجابهة هذا التنظيم وزاد عدد جنوده بالعراق.
وأظهر استطلاع للرأي أن 62% من الأميركيين يؤيدون التدخل المحدود في العراق بعد شريط فولي، علما بأن الرأي العام الأميركي كان مناهضا لأي تدخل في سوريا إبان الإبادة الكيميائية لمئات الأطفال.
وأعلنت واشنطن بعد بث شريط فولي أنها نفذت "هذا الصيف" عملية لإنقاذ رهائن أميركيين يحتجزهم تنظيم الدولة في سوريا لكنها "فشلت". وهو ما فسره البعض بمحاولة تخفيف النقد الشعبي لواشنطن بعد تهييجه ضد الجهاديين، علما بأن الناشطين السوريين لم يذكروا شيئا عن العملية، بل لم يذكرها التنظيم نفسه الذي يفترض أن يحتفي بفشلها.
أما في بريطانيا فيخشى المسلمون من التضييق عليهم، حيث شرعت الشرطة في مداهمة منازل بعضهم بحثا عن هوية "القاتل" الذي تحدث بلهجة بريطانية.
تجدر الإشارة إلى أن الرأي العام يميل إلى الأخذ بظاهر الرواية التي ينقلها الإعلام ويتبناها صناع القرار، ولا سيما التي تمس الانتماء القومي، وهذا ما حرص عليه صناع الفيلم عندما اختاروا عنوان "رسالة إلى أميركا"، وغالبا ما تضيع شكوك الناشطين المشابهة في ملفات "نظرية المؤامرة"، خصوصا وأن البحث عن المستفيد من "فبركة" فيلم كهذا سيفتح أبوابا لتعقيدات كثيرة، وأهمها التوثق من وجود اختراق مخابراتي غربي لمؤسسة الفرقان التي نشرت الفيلمين.
[email protected]