أقامت الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء والصحفيين الفلسطينيين في دمشق ملتقاها الشهري الدائم (ملتقى الأجيال) بحضور عضو الأمانة العامة للاتحاد الكاتب والباحث عبد الفتاح إدريس وإدارة الكاتب والشاعر خليفة عموري وبمشاركة كل من الشاعر والإعلامي علي الدندح ، الملحق الثقافي لسفارة دولة فلسطين الشاعر شاكر جياب ، الشاعر الدكتور نزار بني المرجة.
استهل الكاتب والشاعر خليفة عموري مدير الملتقى الجلسة بحوار حول علاقة الإبداع بمسألة القلق بمعنى عدم الاستكانة إلى أنماط الحياة السائدة والأفكار النمطية التي تُسيّر حياتنا ، بالاستناد إلى مقولات كتاب عالميين من أمثال بول فاليري " القصيدة هي تطوير لصيغة التعجب ، صيغة واضحة المعالم للتعجب" وموريس نادو الذي يقول :"الكتابة هي الاستقرار داخل الرفض ، داخل العزلة" وقد أجمع الكتاب والشعراء على كون النص الأدبي هو نتيجة توتر إيجابي تعيشه الذات المبدعة وسط عالم نمطي بارد وأن سحر الشعر وغيره من الأجناس الأدبية يفجره هذا القلق إزاء عالم تتراجع فيه قيم المحبة والعيش المتناغم والجمال.
وقد شارك في الأمسية الشعرية شعراء من أصحاب التجربة المتقدمة في مجال الشعر الحديث من فئتي قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وذلك بهدف أن تتلقى الأجيال الصاعدة من الشعراء الشباب هذا الفن الشعري بطريقة صحيحة وتستطيع فهم سماته وكانت أولى المحطات مع الشاعر الإعلامي علي الدندح والذي جاء في قصيدته:
إلى حيثُ تمشي بِظِلّي خُطايْ
أمدُّ إلى الأفْقِ حَبْلَ اشتهائِيْ،
أمدُّ رؤايْ
إلى حيثُ تمشي بِظِلّي خُطايْ
فلا تسبِقينيْ
إلى حيثُ لا عُمْرَ كيْ ألتقيْكِ،
و لا درْبَ يمتَدُّ نحوَ اللقاءْ..
كثيراً سأحزنُ،
حينَ السِّياجُ يصيرُ وحيداً
فلا أنتِ عصفورةُ الورْدِ فيه،
و لا خافقِيْ مُغرِقٌ في شذاهْ
كِلانا على السُّهْدِ أرخى جناحاً
و أَوغَلَ في التِّيْهِ ،
ضاقَتْ بهِ الآهُ...
آهاً .. فآهْ!!!
يمرُّ الزَّمانُ وحيداً
على شطِّ هذي الظِّلالِ
أتوهُ ... كأنّيْ...
نسيمٌ شفيفٌ،
و جَرْحٌ يفيْضُ
على مَدِّ عُمرِيْ أساهْ!!!
* رؤية نقدية:
وقد رأى الناقد الأستاذ أحمد علي هلال في قصائد الشاعر الدندح أنها تنم عن كونه شاعر يعشق التفاصيل الصغيرة وعن كونه شاعر الدهشات وتمتاز قصائده بمسحة حزن لايتجلى في الوصف بل بتطييف هذا الحزن ليكون جزءاً من مفهوم الشاعر علي عن الشعر والحب باعتبارهما شيئاً واحداً.. وأردف هلال قائلاً: "روح الشاعر علي مسكونة بشواغل القصيدة ، وقصائده غير منتهية بل هو يكتب القصيدة المشروع وبالتالي تجربته منفتحة والجماليات التي يبثها عبر شبكت محمولاته الدلالية ينشد من خلالها جمالاً لا يُستوفى".
ومن جهته رأى الناقد والأديب سامر منصور فيما قدمه الشاعر علي الدندح:" وجدت في قصيدة (هو الحب) مبنى فسيفسائي استغنى فيه الشاعر علي عن أداوت الربط المعروفة في اللغة العربية ليجعل سطور وتراكيب قصيدته مترابطة على خليفة رؤيوية وخلفية وجدانية وفي ايقاع البوح الذي وصل حد التداعي الحر في التعبير عن مكنونات النفس تجاه ذلك الغامض العذب الذي نسميه الحُب وقد استطاع الشاعر وفق أدائه المسرحي عبر القائه المعبر الذي راعى فيه تبديل طبقة الصوت بما يتناسب مع العتبات الدرامية والحالات الشعورية المختلفة في النص بالإضافة إلى المنظومة الحركية الإشارية التواصلية التي عبر عنها بلغة جسده أثناء الإلقاء.
وأردف منصور :" ولقد امتازت قصائد الشاعر علي بالمقدرة التصويرية العالية وعبر عن مقولات كبار النقاد أن " الشعر هو اللغة مشحونة بالمعنى " وجاءت قصائده الوجدانية التي جعل الحب موضوعها تجسيداً لمقولة أوكتافيو باث :" الشعر يخط جسراً بين الرؤية والظن" حيث حرر الشاعر علي الحُب من ثقل معناه المتعارف عليه وطوَّفهُ نجمة ً في فضاءٍ شاسع كلما أوشك أن يقبض عليها تسربت بسرعة الضوء إلى مسافات أبعد فكان يمزج بين يقينه بالحب ومعرفته به وهواجسه عنه وتتبعه له جاعلاً منه القريب البعيد في آنٍ معا".
ومما أشار إليه منصور من الشواهد على المقدرة التعبيرية لدى الشاعر علي:" الماء يتخثر في رئة النهر" ، "على الضفة الوسطى لذلك النهر" ، "تقطف موجة ً من جرحِ شاعرٍ خاف من زرقته" ، "امرأة تحتوطب فرحا".
عقب ذلك مشاركة الشاعر شاكر جياب بنصه بعنوان (ياسمين):
الساعة منتصف النهار
في الخارج صيفٌ متقد
أتسكع بالمدينة العتيقة
أدخل زقاقاً يفضي إلى زقاق
كأني أتبع رائحة الياسمين
مصابيحٌ مزخرفة معلقة كالأجراس
نباتاتٌ مندلقة من الشرفات
أراقب تلاقي العيون وتماس الأثواب
الأرصفة ملأى بعربات الباعة
خلعت أثقالي والتصقت بالأرض
شاهدت جميع العابرين الغابرين
مسحت على رأسي امرأة عجوز
وطفلٌ سقاني شربة ماء
ومن نصه بعنوان (رسالة كونية) نقتطف:
أمن الضروري أكتبُ شعراً
كي أظلَّ على قيد الأحلام
لاقدرة لي على حبس هواجسي
يشدني عنادُ هذه اللعبة
أقطب جبيني ، أقوّس حاجبيَّ
مبالغاً في هزليةِ الجدية
تبدأ خيولي تجول
تنتظر صفرة التوقف
بعينين عميقتين ، كجرح عاشقٍ
تكسر جرار الأسرار
ورأى الناقد أحمد هلال في نصوص الشاعر شاكر جياب انفتاحاً على فن القصة بالإضافة إلى شعريتها الواضحة فهي نصوص عصية على التجنيس وتنم عن حرية ينهجها الشاعر شاكر فيما يكتبه تنم عن أصالة العملية الإبداعية التي يضطلع بها من حيث أنه لايحاول قولبتها بل يتركها في حالتها التلقائية وهذا يشكل حسب ما أشار الناقد هلال قيمة مضافة لنصوص الشاعر شاكر والتي تعتبر نصوصاً تأملية.
وبدوره تناول الشاعر والناقد سامر منصور الفضاء التخييلي لدى الشاعر شاكر قائلاً: " كان الفضاء المشهدي للخيال الذي سكب فيه الشاعر شاكر رؤاه وهواجسه وأفكاره واسعاً جداً حيث شملت الصورة الشعرية والتراكيب بيئات متعددة فقد وردت كلمات تدل على مسائل متباينة ومما ورد أذكر مايلي:" تطريز – قطارات – ثقب أسود – زبد الغيوم – أخاديد – تأرجح – جنازات " لقد استخدم قاموساً واسعاً من المفردات المختلفة في تشكيل لوحته الشعرية مما ينم عن جرأة في الانطلاق في فضاءات التخييل مما يجعل المعادل الموضوعي وضبط الوحدة العضوية للنص مسألة غير سهلة بمعنى إيجاد الخلفية الفكرية والحسية الجامعة لكل تلك البيئات المستحضرة عبر ومضات مشهدية متباينة.. فالبيئات المتعددة كالبحر والفضاء والصحراء .. إلخ لها منظوماتها السمعية واللونية التي يستحضرها الخيال وهي ليست متناغمة بالضرورة وهذا الزخم في استحضار مشهديات متباينة يرفع سقف التحدي الابداعي لدى الكاتب.. وقد أجاد الشاعر شاكر توليد صورة شعرية فريدة منفتحة الدلالة".
ومن الأمثلة التي ذكرها منصور قول الشاعر شاكر:" السماء ممزقة كخيمة لسيرك ، تركت القطارات خلفي وكل المحطات متصدعة ، سقطت سهواً نحو الغد ، كان النهر مسرعاً متظاهراً أنه سيصل إلى مكانٍ ما.. "
واختتمت المشاركات بما قدمه الشاعر الدكتور نزار بني المرجة والذي قرأ عدداً من القصائد الوطنية ومما قرأه من قصيدة صلاة في مجدل شمس نقتطف:
كان مطلوباً وضوء الدمْ
والتيمم بالتراب!
والقصيدة كانت تسطّرُ ذاتها..
بيتُ القصيدْ:
شطرٌ جريحْ .. شطرٌ شهيدْ
والقوافل آتية!
ومما جاء بقصيدته بعنوان اختلاجات:
المخاضاتُ أخبرتني
تمرون طيفاً ونزفاً
.. تئنون تحت السنابكِ
ترفلون بالقهرِ والعطرِ ،
تحت كوفيةٍ ذابلة!
والجنازات علمتني
تداهنون الموت خلف التوابيت
وتلعبون لعبة - الطعن –
تحت يافطة العشق..
مزيداً من العزف
فالأباريق خاليةٌ من الخمر والماء؟
.. تغرينا الديمومة
يخدعنا الدوران
وتسلّينا العجلات
ما أروع انهياركم
ياشجعان الجرائد والصور
.. مرحى يا أبطال الوحل!ّ
مزيداً من التراتيل والإذاعات
وأنت أيتها النعاج
اقضمي كثيراً من العشب
حتى تسمن السكاكين!
وتظهر تبوغٌ لاوطنية جديدة
في السوق البيضاء!
سلاماً أيها الأتقياء العراة
أما مللتم – الأراغن – بعد؟
- أي لونٍ يكسو الجناحين أيتها الفراشات؟
.. أي فصلٍ ينتابك الآن
يامدن القلب؟
..................
بعد الجفافِ
يطالبونكِ بالشلالات
أيتها الينابيع!
ويريدون منكِ ابتسامةً
أيتها الشفاه المحترقة!
* رؤى نقدية:
وحول ماقدمه الشاعر الدكتور نزار بني المرجة لفت أحمد هلال إلى الصور والتراكيب الفريدة والتي تستمد فرادتها من رهافة الشاعر نزار وأشار هلال إلى حضور الوطن في معظم القصائد كهاجس تُشتقُّ منه جميع الهواجس التي تشكل الشواغل الوجدانية للشاعر.
ورأى منصور في قصائد الشاعر الدكتور نزار بني المرجة تميزها باعتماد الشاعر للمفردات المشهدية التي نصادفها في حياتنا اليومية مما جعلها قصائد في باب السهل الممتنع وجعل منه شاعراً طليعياً حيث لكل صورة وتركيب معادلها الموضوعي في سياق حياتنا اليومية والمتغيرات السياسية والاقتصادية والأخلاقية التي طرأت على المنطقة العربية في الحقبة التي عاصرها الشاعر.
ومن الفنيات التي أشار إليها منصور في قصيدة اختلاجات التضاد في قول الشاعر:" وأنت أيتها النعاج.. اقضمي كثيراً من العشب.. حتى تسمن السكاكين!.. وتظهر تبوغٌ لاوطنية جديدة.. في السوق البيضاء!" حيث أشار منصور إلى أن التضاد بين السوداوية التي تحملها دلالة السياق وكلمة السوق البيضاء وهي حسب قول منصور: "عملية ابداعية مركبة تفيد المفارقة لإحداث الدهشة لدى المتلقي عبر العصف الذهني".
وتضمنت الفعالية رؤى ومداخلات نقدية لعدد من الكتاب والشعراء أثنت على ماقُدِّمَ من نصوص حيث رأى الكاتب والقاص أحمد حسن أن الشاعر علي الدندح استطاع أن يسخر مهاراته كإعلامي في خدمة قصيدته من حيث توظيفه لحركات جسده أثناء إلقائه المعبر حيث لم تكن فقط شفتاه تحكيان القصيدة بل عيناه ويداه أيضاً.. وأكد القاص أحمد أنه قد غلب على كافة المشاركات الشعرية المنحى الحداثي لتركيب الصورة الشعرية وأشاد الشاعر جمال القجة بالانسياب الموسيقي في قصائد الشاعر علي الدندح وقدرته على تسخير أي قافية وروي لخدمة الغرض الوجدان لقصائده حين لجوئه إلى الشعر الموزون.
[email protected]