تقدّم المحاميّان توما هلّون، ابن قرية عسفيا الكرمليّة، وديمة عبادي-الماضي الحيفاويّة (يعملان في مكتب كاتب هذه السطور) بإلتماس قضائيّ للمحكمة المركزيّة في حيفا (ملفّ إداري رقم 18-03-41236)، دعوى تقشعرّ لها الأبدان.
"مسرح" أحداث الدعوى بقايا كنيسة أو قلعة في تلّ السمك على شاطئ حيفا، أهملتها السلطات منذ النكبة بمحاولة لإخفاء وطمس معالمها التاريخيّة المسيحيّة، والصور المرفقة بالدعوى هي الشاهد والدليل.
تناولت الدعوى منحوتة فسيفساء، لوحة فنيّة رائعة، مُهملة وبدون صيانة، تتآكل وتتلاشى مع الزمن، لوحة فنيّة تشهد على تاريخ وتصوّره بأبهى صوره، تشهد بأنّ المنطقة كانت مأهولة بأهلها الذين عملوا على إعمار البلدة وازدهارها.
قُدّمت الدعوى باسم المحامي توما هلّون، الذي إدّعى بدوره بأنّه تمشّى في شهر أكتوبر الأخير على شاطئ تلّ السمك الحيفاويّ، واقشعّر بدنه حين وصل إلى باحة مبنى قديم يظهر أنّه كان كنيسة أو قلعة مسيحيّة يونانيّة من الفترة البيزنطيّة، كان المبنى مُهملًا ومهشّمًا، أرضيّته من الفسيفساء، لوحة فنيّة باهرة توحي بعظمة المكان وتاريخه، شاهدة على ماضٍ عريق وحضارة شعب عاش هنا في يوم ما.
بعد دراسة معمّقة تبيّن أنّها تعود إلى العصر الحديديّ، منطقة ازدهرت آنذاك باقتصادها وعمرانها، مبانيها العموميّة ومنازلها السكنيّة ومنطقتها الصناعيّة. هناك آثار كنيسة رُصِفت أرضيّتها بالفسيفساء المزيّنة بصلبان برونزيّة، أشكال هندسيّة، رسومات لنباتات وفواكه، وكؤوس. بالإضافة إلى فسيفساء تحمل كتابات يونانيّة وكُتب على إحداها: "هذا مكان الأيام السعيدة"، ولوحة أخرى كُتِب عليها: "بورِك بانيها"!
توجّه المحامي توما بعشرات الرسائل إلى مؤسّسات عدّة، محليّة وعالميّة، لإصلاح الوضع ولكن لا حياة لمن تنادي فاضطرّ اللجوء للقضاء بدعوى جماهيريّة، وليست شخصيّة للمكسب الخاصّ. إدّعى بأنّ إهمال المكان جريمة من قبل الدولة ومؤسّساتها، ومن واجبها الحفاظ على تلك الأمكنة، بما فيه الأمكنة المتعلّقة بأبناء الأقليّات، ديانتهم وحضارتهم. استبسل المدّعَى عليهم في الدفاع لدحض مُجمل ادّعاءاته.
صدر مؤخّرا قرار المحكمة، وجاء صارخًا ضد بلديّة حيفا، صرّح بأنّها ملزمة بالحفاظ على الموقع الدينيّ/الأثريّ ومنع إهماله وهدمه. ألزم القرار البلديّة بإقامة لجنة حفاظ على المكان نظرًا لأهميّته التاريخيّة والأثريّة والعمل على الحفاظ عليه، ترميمه وصيانته بأعلى سلّم أولويّاتها وغرّمها بمصاريف المحكمة وأجرة المحامي.
يُعتبر القرار أسبقيّة قانونيّة يجب الاحتذاء بها للحفاظ على باقي المواقع الأثريّة والدينيّة لكل الطوائف في البلاد.
تدمير الكنيسة/القلعة، كغيرها من كنائس فلسطين، يصبو إلى محو الهويّة الفلسطينيّة من الحيّز والإسراع في تهويد المعالِم من أجل صياغة صورة جديدة وخلق حيّز يهوديّ للمكان كي لا تبقى شاهدًا على تلك الجريمة النكراء وعلى التطهير العرقيّ الإجراميّ المقيت بحقّ الفلسطينيّين.
أهملت سلطة الآثار الموقع المذكور عمدًا، لم تقم بصيانته، ترميمه و/أو إعادة تأهيله، بمحاولة لطمس وتشويه معالم المكان كجزء من تلك المؤامرة المستمرّة لمحو الهويّة الفلسطينيّة وتوطيد الرواية الصهيونيّة وتدعيمها، حيث يعمل الاحتلال الصهيونيّ على محو الذاكرة الفلسطينيّة والتخلّص منها وفبركة التاريخ وتجييره – قولًا وفعلًا، في القدس وحيفا وفي كل مكان لطمس الذاكرة!!
آن الأوان لصيانة وحماية آثارنا للحفاظ على الذاكرة الجمعيّة!
[email protected]