حين أطلَعني صديقي الكاتبُ فوزي ناصر على مخطوطةِ كتابِه "خَطواتٌ على طريقِ الذاتِ"، قبل أن يدفَعَهُ للمطبعةِ، تحمَّستُ كثيرًا لهذا الكتابِ، وذلك لعدَّةِ أسبابٍ، منها: المضمونُ الذي تناولَهُ الكاتبُ، والذي فيما أرى، ما زالَ نادرًا في أدبِنا المحلّيِ، وربَّما العربيِ أيضًا، وهو: العودةُ إلى الذَّاكرةِ ليغترفَ منها ذلكَ المخزونِ الوافرِ عَنْ عُلاقتِهِ بالعَديدِ من الشَّخصيَّاتِ والأماكنِ التي عايشَها وعرَفَها عن كثبٍ، وقد أعجبَني أيضًا أنَّهُ في هذه الكتابةِ جمعَ بينَ السيرةِ الذَّاتيَّةِ، وفنِّ القصِّ الذي يسردُ فيه أحداثًا واقعيَّةً لا بُدَّ أنْ تُثيرَ اهتمامَ القراءِ، غيرَ أنَّ ما يميّزُها، كما أسلفتُ: الجمعَ بينَ السيرةِ الذَّاتيَّةِ وفنِّ القصِّ، ولعلَّ فوزي هو أولُ من كتبَ بهذه الطّريقةِ.
تْمشّينا خطوِه خطوِه
توخذْنا بْهَالذّكريات
تِسحرْنا مِثْل الغنوِه
تِتْماوَج فيها مْرايات
نجمِه بالوعْد بْتِضوي
نِسمِة بِتَغازِل وردات
تِعزِف موسيقى الكلمِه
تِهدينا أحلى حْكايات!!..
الشَّخصيَّاتُ التي تجسَّدَتْ في هذا الكتاب، جاءَتْ مُقنِعَةً، نابِضَةً بالحياةِ، شأنُها في ذلكَ شأنُ تلك الشَّخصيَّاتِ التي رأيناها، أو عايشناها في الأعمالِ الرّوائيَّةِ والقصصيَّةِ التي حين رَسَمَها هذا المبدعُ أو ذاكَ، إنَّما تَرَكَ لها حيّزًا واسعًا لكي تتصرَّفَ على سجيّتِها، وفقًا لمركّباتِها النَّفسيَّةِ والثقافيَّةِ والطّبقيَّةِ. كاتبُنا في هذا الجانبِ أتاحَ لشخصيَّاتِهِ أنْ تتحرّكَ تمامًا كما هي بشحمِها ولحمِها، تتحدَّثُ بلغتِها، وتفكّرُ في حدودِ ثقافتِها، ولا تفعلُ غيرَ ما ينسجمُ مع طابعِها وتكوينِها وبيئتِها. وحينَ تفرِضُ عليهِ الأحداثُ، أو الحبكةِ القصصيَّةِ أن يتحدَّثَ هُوَ بلسانِها، أو بالإنابةِ عنها، فإنَّهُ لا يخرجُ عن خاصَّتِها، بل يؤكدُها ويثبّتُها، فتتجسَّدُ بالتَّالي صفاتُها الوطنيَّةُ، وملامحُها الإنسانيَّةُ التي تُشعِرُ القارئَ بأنهُ هو أيضًا يشاركُ الكاتب في صداقتِهِ لشخصيَّاتِهِ.
التَّواصلُ الذي أراهُ بين الكاتبِ والقارئِ، يتعزَّزُ من تلكَ المحبَّةِ الصَّافيةِ التي تفوحُ بأجواءِ الكتابِ، فَنُحِنُّ إلى ذلك الزَّمنِ الجميلِ؛ حيث كان الصَّديقُ صَدوقًا، والجَّارُ لا ينامُ قبلَ أنْ يطمئنَّ على جارِهِ.
الكتابُ بهذا المعنى: يُعتبرُ بمثابةِ رسالةَ حبٍّ؛ جاءت في مرحلةٍ اختلَّتْ فيها الموازينُ عندَ البعضِ، واختلَطَتْ فيها الأوراقُ، وتهاوَت الكثيرُ من القيمِ السّياسيَّةِ، الاجتماعيَّةِ، والثّوابتِ الوطنيَّةِ، وباتَ العنفُ سيّدَ الموقف.
أسجّلُ بكلِّ ثقةٍ أنَّ هذا الكتابَ يشكّلُ لما احتواهُ من بَثِّ المحبَّةِ؛ ثورةً على تلكَ الظَّواهرِ المقلقةِ، المذكورةِ سابقًا، ولا أدلُّ على ذلكَ أكثرَ من الإهداءِ، حيث يقول: "إلى أرواح والديّ وأصدقائي الرّاَحلين، وإلى من بقيَ شاهدًا على ما كان، وشريكًا في هذه الذّكريات. وإلى أهلِ بلدتِهِ المهجَّرةِ، إقرث، وإلى كلِّ النَّاس".
حُبِّ النَّاس كْتابَك يحكي
خطوِه خطوِه ماشي الدَّرْب
راسم فوق الشِّفِه ضُحْكي
وردِه تْفوح بْعِطْر القَلْب
ما في يمكن ولا بلكي
حُبِّ الصًّافي حاكي حُب
متمكّن من فنِّ الحَبْكِه
تروي قِصِّة ذكرايات!!
الحياةُ الزَّاخرةُ التي عاشَها الكاتبُ، وتدوينُ ذكرياتِها في كتاب، كانت بلا شكٍّ ثريَّةً بالتَّجاربِ والأحداثِ، لكنَّه لم يعطِ للأنا حقَّها، رغمَ أنَّ ذلكَ ممكنٌ ومشروعٌ، خاصَّةً أنه يستعيدُ سيرتَهُ الذَّاتيَّةَ. لم يتحدّث مثلا عن تعدُّدِ مواهِبِهِ، لم يقلْ بأنهُ يتقنُ كتابةَ الخطِّ العربيِّ، والرَّسمَ التّشكيليَّ، ويكتبُ الشّعرَ والنَّثرَ، لم يذكر أنهُ باحثٌ في معالمِ الوطنِ، ولهُ في هذا المجالِ عدَّةُ كتبٍ. إنَّما استطاعَ بحسِّهِ المرهفِ، وعدستِهِ الفنيَّةِ أن يلتقطَ من حياتِهِ الزاخرةِ صورًا لوقائعَ تستحقُّ الوقوفَ عندَها لما فيها من عِبَرٍ نافعةٍ، أو نوادرَ لا تتكرَّرُ كثيرًا، أو حكاياتٍ تبعثُ على الدَّهشةِ أو السُّرورِ، إلخ...إلخ، وظَّفَها كاتبُنا بأسلوبٍ سلسٍ، مشوّقٍ، وحافلٍ بالحركةِ، ففي حكايةِ "أبو صبحي" مثلا: (ص: 6) الذي (يحلُّ ضيفًا موسميًا على حارتِنا في موسمِ الزَّيتونِ الذي كانت تتغيَّرُ فيه حياةُ القريةِ الرُّوتينيَّةِ، فيأتيها فرّاطونَ وجوَّلاتٍ من قرى أخرى وتنشط الطّرقاتُ بالحميرِ التي تأتي إلى معاصرِ القريةِ التي تنبعثُ منها رائحة الزَّيت). يأتي الكاتبُ من خلالِ أحداثِ هذا النّصِ الأدبيِّ إلى نتيجةٍ مفادُها: الرفقُ بالحيوانِ، ومحبَّةِ الأطفالِ، وصونِ المكانِ الذي يعزّزُ في نفسِ القارئِ شعورَ الانتماءِ إلى مُجتمعِهِ ومُحيطِهِ.
يواصلُ الكاتبُ خطَّ تعزيزِ الانتماءِ إلى هذا الوطنِ عبرَ محطاتٍ كثيرةٍ، أذكرُ منها على سبيلِ المثالِ: (هكذا تعلَّمنا العربيَّة) ص: 102، (وجاء يوم الأرض) ص: 109، (عكا وطقوس الجمعة) ص: 116، (من وحيِ زيارةٍ إلى يافا) ص: 108، التي يروي فيها عن "حجارةِ بيتٍ عتيقٍ في يافا"، وعن صاحبِهِ المهجّرِ الذي تنهمرُ الدُّموعُ من عينيهِ حين جاءَ لزيارتِهِ، وعن الأبوابِ المغلقةِ، والتي تنتظرُ عودةَ أصحابِها.
إنَّ اندماجَ الأنا بالآخر، ولآخرَ بالأنا في هذا الإصدار، جعلَهُ لا ينحصرُ في سيرةِ الكاتبِ فوزي ناصر الذَّاتيَّةِ فحسب، بل يتخطاها إلى السّيرةِ الذَّاتيَّةِ للشَّخصيَّاتِ التي كتبَ عنها، وذاكرةِ الأماكنِ التي عاينَها في كتابِهِ القيِّمِ، والفريدِ من نوعِه، أراها تُبَشِّرُ بولادةِ نصوصٍ أدبيَّةٍ أخرى، ننتظرُ قُدومها بشوق.
[email protected]