فرضت إسرائيل الحكم العسكري في المناطق المحتلة عام 1948، التي كان يفترض أن تكون في الدولة العربية وفق قرار التقسيم، وأنظمة الطوارئ الانتدابية التي تبنتها الحكومة المؤقتة لم تُلغ أبدا، وعمليا ما زالت سارية على الأقلية العربية.
تفسر القرارات التي اتخذها قادة حزب مباي لدى تأسيس إسرائيل، وحتى قبل ذلك بفترة قصيرة، السياسة التي اتبعتها هذه الدولة تجاه المواطنين العرب فيها، حتى يومنا هذا. ويتجلى ذلك من خلال القرار بفرض الحكم العسكري على المدن والقرى العربية داخل حدود إسرائيل وعلى الأقلية العربية الباقية فيها. وينبغي الإشارة بداية إلى أن قرار فرض الحكم العسكري لم يُتخذ بعد الإعلان رسميا عن قيام إسرائيل، وإنما ناقشته الحكومة الإسرائيلية المؤقتة، قبل انتخابات الكنيست الأولى، وحتى قبل اتفاقيات وقف إطلاق النار.
الأمر الثاني الذي ينبغي توضيحه، هو أن إسرائيل فرضت الحكم العسكري على المناطق التي احتلتها، الجليل والمثلث وقسم من النقب، والتي كانت تقع في إطار الدولة العربية بموجب قرار تقسيم فلسطين في العام 1947. وباستثناء الضفة الغربية وقطاع غزة، حينذاك، طردت العصابات الصهيونية المسلحة، وبعد ذلك الجيش الإسرائيلي، معظم العرب الفلسطينيين من قراهم الواقعة ضمن الدولة اليهودية، بموجب قرار التقسيم، وهدمت قراهم. ومارست الأمر نفسه ضد العديد من القرى في الأراضي التي احتلت في القسم الذي خصصه قرار التقسيم للدولة العربية.
رسميا، تم فرض الحكم العسكري في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1948، وانتهى في الأول من كانون الأول/ديسمبر 1966. ولم تمضِ بضعة شهور حتى قرر رئيس الحكومة ووزير الأمن، دافيد بن غوريون، إفراغ وزارة الأقليات من مضمونها وإلغاء هذه الوزارة، ونقل صلاحياتها إلى مستشار رئيس الحكومة لشؤون العرب. وتوضح هذه الخطوة نوع التعامل مع الأقلية العربية الذي اختارته إسرائيل. وكان أول مستشار كهذا، هو يهوشع فلمون، رجل خدمة المعلومات الذي شكل جهاز الاستخبارات لميليشيا هاغانا الصهيونية. وكان فلمون متخصصا بالتجسس على الفلسطينيين منذ العام 1940.
لكن الجهة الأبرز التي تعاملت مع الأقلية العربية هي جهاز الحكم العسكري، الذي سيطر على حياة المواطنين العرب على مدار 18 عاما. وتؤكد الدراسات الإسرائيلية بهذا الخصوص، أنه على الرغم من أن الحكم العسكري أقيم لمزاعم أمنية، إلا أن هذا الجهاز الوحشي والقمعي والتعسفي تغلغل إلى كافة مجالات حياة الأقلية العربية، وتحول إلى أداة لسيطرة الدولة على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وسرعان ما تبين أن الحكم العسكري ليس جهازا أمنيا. إذ طالبت شخصيات أمنية كبيرة في إسرائيل، مثل يغئال ألون وإيسار هرئيل (رئيس الشاباك وبعد ذلك رئيس الموساد)، بإلغاء الحكم العسكري، مشيرين إلى أنه جهاز يعزز عداء العرب للدولة، إلا أن بن غوريون رفض ذلك، لأن الحكم العسكري خدم مصلحته السياسية – الحزبية من خلال تخويف الناخبين العرب وابتزازهم.
* حالة الطوارئ مستمرة منذ 1948 وحتى اليوم
استندت الحكومة الإسرائيلية، بقرارها فرض الحكم العسكري على الأقلية العربية، إلى أنظمة الطوارئ الانتدابية من العام 1945، التي جرى تبنيها في الحكومة الإسرائيلية المؤقتة. فقد أعلنت هذه الحكومة المؤقتة، في 19 أيار/مايو 1948، أنه يوجد في الدولة حالة طوارئ ولذلك تم فرض الحكم العسكري في مناطق معينة في إشارة إلى المناطق العربية. ويؤكد باحثون إسرائيليون، بينهم سارة أوستسكي لزر (مجلة هميزراح هحداش أي الشرق الجديد – الصادرة عام 2002)، أنه لم يتم إلغاء حالة الطوارئ التي أعلِنت في العام 1948، وأنها ما زالت سارية المفعول حتى اليوم.
ومكنت حالة الطوارئ هذه السلطات الإسرائيلية، مثلما مكّن الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، من مصادرة الأراضي العربية وإقامة مستوطنات عليها، مثل مدينة نتسيرت عيليت ومئات البلدات الصغيرة ذات الطابع الريفي. كما أنها دمرت البنية الاقتصادية والتشغيلية للأقلية العربية، وفرضت نظام التصاريح على المواطنين العرب للتنقل من مكان إلى آخر، مهما كانت المسافة قريبة. وبسبب الفقر والحاجة في المجتمع العربي، كان كثير من العمال يغادرون قراهم سعيا وراء لقمة عيش عائلاتهم وأطفالهم من دون تصاريح، وغالبا ما كان يتم اعتقالهم ومحاكمتهم، إذ اعتبر الحكم العسكري تواجدهم خارج قراهم بأنه مكوث غير قانوني، مثلما هو حال آلاف العمال الفلسطينيين من الضفة داخل إسرائيل اليوم. وأدى نظام التصاريح إلى وفاة العديد من المواطنين العرب بسبب عدم التمكن من استصدار تصاريح بسرعة لنقل مرضى إلى مستشفيات.
وخلال فترة الحكم العسكري، كانت تخضع القرى العربية، خاصة في المثلث، لنظام حظر التجول التعسفي، من مغيب الشمس وحتى شروقها. ويذكر أنه على خلفية هذا النظام ارتكبت القوات الإسرائيلية مجزرة كفر قاسم، في العام 1956.
وهذه لم تكن المجزرة الوحيدة تحت نظام الحكم العسكري. ففي 25 حزيران/يونيو 1952، قتل جنود إسرائيليون مواطنين عربيين وأصابوا آخرين بجروح بالقرب من قرية عارة في المثلث. وبعد احتجاجات، بينها احتجاج من جانب حزب مبام، شكلت الحكومة لجنة تحقيق، توصلت إلى عدم وجود متهمين جنائيين بين الجنود، بينما أعلن بن غوريون أن العائلات ستحصل على تعويض.
كذلك استخدم الحكم العسكري نظام الاعتقال الإداري ضد قياديين ونشطاء عرب، وحتى ضد وجهاء ورؤساء مجالس محلية كانوا معروفين بعلاقاتهم مع السلطات وبصداقاتهم مع يهود. وكان الحكم العسكري أبلغ تعبير عن النوايا الشريرة للمؤسسة الإسرائيلية ضد الأقلية العربية.
وعرقل جهاز الحكم العسكري تنفيذ قرارات صادرة عن المحكمة العليا الإسرائيلية بخصوص عودة مهجرين إلى قراهم، مثلما حدث مع مهجري قرى الغابسية وإقرث وبرعم. ولا تزال إسرائيل تمنع تنفيذ هذه القرارات حتى اليوم.
* الحكم العسكري انتهى لكن أنظمته بقيت
بداية نهاية الحكم العسكري كانت باستقالة بن غوريون، في 16 حزيران/يونيو العام 1963. وبعد أربعة أشهر، أعلن خلفه في رئاسة الحكومة، ليفي أشكول، في الكنيست أنه لن يلغي الحكم العسكري وإنما سيخففه، بحيث يكون هذا الجهاز يَرى ولا يُرى، بحيث يبقى الحكم العسكري ولكن يتم تقليص الاتصالات المباشرة بين ضباطه وجنود وبين الأقلية العربية.
وواصل أشكول سياسة سلفه بن غوريون، حتى خريف العام 1965، في ثلاثة مجالات: عدم إلغاء الحكم العسكري؛ عدم إلغاء أنظمة الطوارئ الانتدابية؛ تقليص الحضور العلني لضباط وجنود الحكم العسكري. وفي المقابل، يعتبر باحثون إسرائيليون، بينهم يائير بويمل، أنه خلافا لبن غوريون الذي كان يوافق على تسهيلات معينة في أعقاب ضغوط تمارس عليه وبسبب ظروف سياسية، مثل انتخابات، فإنه خلال ولاية أشكول كانت التسهيلات سياسة حكومية هدفها إزالة أو تخفيف بقدر الإمكان للتمييز والإجحاف بحق الأقلية العربية.
ووفقا لبويمل، فإن أشكول، خلافا لبن غوريون، لم ينظر إلى العرب على أنهم طابور خامس مستقبلي وخطر أمني متواصل فقط، وإنما رأى بهم سكانا بالإمكان تحويلهم إلى متعاونين مع الحكم اليهودي بواسطة سياسة عقلانية.
ووفقا لسياسته هذه، أعلن أشكول في الكنيست، في 21 تشرين الأول/أكتوبر العام 1963، عن أنه باستثناء المواطنين الذين يعتبرون بمثابة خطر أمني فإنه يتم إعفاء المواطنين العرب في الجليل والمثلث من الحاجة إلى استصدار تصاريح تنقل، وذلك باستثناء سكان قرى برطعة وعرب العرامشة وصندلة ومقيبلة وطوبا زنغريا، بادعاء أنها واقع قرب الحدود. لكن في المقابل، بدأت حكومة أشكول بحملة استيطانية واسعة في الجليل بهدف تهويده، وذلك في ظل الحكم العسكري.
وخلال العامين 1964 – 1965، عملت حكومة أشكول على تخفيف الحكم العسكري. وفي 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1966 جرت انتخابات الكنيست، وبعد ذلك بأربعة أيام أعلن أشكول عن نيته البحث عن طرق لإلغاء نظام الحكم العسكري، وبعد ذلك أعلن عن إلغاء الحكم العسكري ابتداء من 1 كانون الأول/ديسمبر العام 1966. ووفقا لإعلان أشكول فإن مهام نظام الحكم العسكري تنتقل إلى السلطات المدنية ذات العلاقة، أي الشرطة والشاباك. وتجد الإشارة إلى أن أشكول واجه معارضة من جانب الجيش وقياديين في حزب مباي.
* حكم مدني أسوأ من الحكم العسكري
رغم رسائل الترحيب التي بعثها رؤساء سلطات محلية عربية إلى أشكول في أعقاب الإعلان عن إلغاء الحكم العسكري، إلا أن الأقلية العربية بغالبتها العظمى كانت غير مبالية بهذا الإعلان، لأن تأسيس الحكم المدني الجديد، الحكم من خلال أذرع الشرطة وحرس الحدود والشاباك، ليس فقط أنه لم يخفف على الحياة اليومية للمواطن العربي، وإنما في حالات كثيرة كان أسوأ من الحكم العسكري. إذ أعلن أشكول أن شرطة إسرائيل تعزز وحدات الشرطة العاملة في مناطق الأقليات بـ100 شرطي وسيارات وأجهزة اتصال... والهدف هو زيادة وتوسيع السيطرة على مناطق الحكم العسكري.
رغم الإعلان عن انتهاء الحكم العسكري في نهاية العام 1966، إلا أنه لم يطرأ أي تغيير على مكانة المواطنين العرب في النصف الأول من العام 1967. واستمرت السلطات الإسرائيلية في وصف مناطق البلدات العربية بأنها مناطق أمنية، كما استمر سريان أنظمة الطوارئ الانتدابية. والحكومة التي أعلنت عن انتهاء الحكم العسكري في الأول من كانون الأول 1966، تعاملت مع هذا التاريخ على أنه علامة أخرى بين تواريخ جرى فيها تخفيف الحكم العسكري وحسب. ومع اندلاع حرب حزيران/يونيو 1967، فرضت الحكومة الإسرائيلية الحكم العسكري مجددا على الأقلية العربية وبلداتها.
وأعلنت الحكومة الإسرائيلية عن إلغاء الحكم العسكري بشكل نهائي في 3 تشرين الأول/أكتوبر 1967، في أعقاب احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية، وانتقال مركز ثقل المشاكل الأمنية والإشراف على سكان معادين إلى تلك الأراضي المحتلة، وبعد أن تبين أن الأقلية العربية لم تشكل خطرا أمنيا أثناء الحرب.
لكن المؤسسة الإسرائيلية لم تُلغِ نظام الحكم المدني عن الأقلية العربية، وإنما شددته. ووفقا لبويمل، فإن الشرطة والشاباك جنّدت مئات المتعاونين والمخبرين، غالبيتهم من زعماء العائلات والمعلمين، الذين كانوا يشكلون شبكة انتشرت في القرى العربية ونقلت إلى الشرطة والشاباك منذ بداية سنوات الخمسين تقارير مفصلة حول كافة نواحي الحياة في كل قرية وحول عائلات عربية كثيرة.
[email protected]