محاولتي لكتابة هذه المقالة، كانت مربكة، وأقسى ما فيها، الإدراك بأن العنف لا ينتظر تحليلاتنا أيا كان مصدرها ومهما كان عمقها، فما أن تحاول الكتابة بُعَيد الجريمة في أم الفحم حتى تداهمك جريمة لا تقل بشاعة في اعبلين، وها هي شوارع كفر مندا تنزف جراء الصراع على كرسي رئاسة المجلس المحلي!
علاج هذه القضية أمر معقد، يتطلب البرامج الآنية وبعيدة المدى على أصعدة مختلفة، لكن الخطوة الأولى، يجب أن تكون بالاعتراف بأن العنف ليس وليد الصدفة ولا ضربة من السماء. المواطنون العرب ليسوا عنيفين بجيناتهم الوراثية، كما تحاول بعض الجهات الادعاء باستشراقية متعالية. إنما العنف هو ظاهرة لها الأرضية التي تنمو عليها والفضاء الذي تتمدد فيه.
عادة ما نعترف بصحة الادعاء آنف الذكر، لكننا وبدلا من بدء العمل أو على الأقل اعداد برامج العمل لمعالجة هذه الظاهرة، ننقسم إلى فريقين، قسم يحمّل السلطة الإسرائيلية مسؤوليتها عن استشراء العنف وقسم آخر يحمل المسؤولية كلها لمجتمعنا العربي، وأعتقد بأن المطلوب هو أن توضع الأمور في نصابها الصحيح فلا نقلل من مسؤولية السلطة عما يجري ولا نهوّن على أنفسنا، إنما العكس، فمنذ عقود خلت، بات واضحا بما لا يقبل الشك بأن الدولة أرادت لمجتمعنا العربي أن يكون "ساحتها الخلفية" التي تستقطب آفات المجتمع الإسرائيلي برمته وتبعدها عن المدن اليهودية، ولعل النموذج الأوضح لهذا كله هو السياسة السلطوية الممنهجة بتحويل بعض الأحياء العربية في المدن المختلطة إلى مسارح للجريمة والمخدرات، التي يرتكبها العرب واليهود بـ "تعايش تام"، ووسط تغاض مفضوح للسلطة وأذرعها.
السلطات الإسرائيلية جزء من المشكلة!
تؤكد المعطيات بشكل واضح بأن تصرف الشرطة وسلطات تطبيق القانون مع المواطنين العرب إشكالي للغاية، والشرطة نفسها التي تُعتَبر مصدر عنف أساسي وعنصري ممنهج تجاه المواطنين العرب، والتي تدعي أنها لا تجرؤ على دخول الحارات العربية عند وقوع جرائم جنائية نجدها تعيد احتلال هذه الحارات دون أن يرف لها جفن لمجرد الشبهات الأمنية، كما أننا نرى الأسلحة غير المرخصة تنهش بلحم شبابنا دون الكشف عن مصدرها ولا يتم الوصول إلى أصحابها إلا عندما تهدد هذه الأسلحة البلدات اليهودية.
عندما نتحدث عن مسؤولية السلطات عن استشراء العنف، فإننا لا نقصد فقط الأذرع المسؤولة مباشرة مثل الشرطة ووزارة الأمن الداخلي، إنما نقصد سياسة التمييز العنصري المتواصل وما أدت إليه عبر الأعوام، فالصلة وثيقة ما بين ارتفاع نسب العنف لدى جماهيرنا العربية وارتفاع نسب البطالة والفقر والنقص الحاد بالأطر التربوية والثقافية المعدة لتحصين شبابنا من الانجرار إلى ما يسمى بالعالم السفلي والذي لا تعيش فيه مخلوقات غريبة، إنما يبتلع أبناءنا ممن ضاق بهم مجتمعنا وعجز عن توفير آفاق مستقبلية لهم.
هذا كله إلى جانب حقيقة يجب ألا نغفلها وهو أن مجتمعنا العربي متأثر إلى حد بعيد بالمجتمع الإسرائيلي عموما وهو مجتمع عنيف ولعنفه عوامل عدة، في مركزها آلة الاحتلال البشعة التي تزج بألوف الشباب الإسرائيليين سنويا إلى المساهمة بقمع شعبنا العربي الفلسطيني، وهو أمر ذو انعكاسات نفسية هائلة على هؤلاء الشبان وكل من يتواصل معه - أي على الغالبية الساحقة من المجتمع الإسرائيلي الذي يتعامل مع قيم العسكرة والقوة على أنها قيم عليا.
ومع ذلك تبقى علينا مسؤولية مركزية!
حاولت أعلاه أن أشير ولو باقتضاب إلى مسؤولية السلطة عما تعاني منه جماهيرنا العربية وأنا أدرك بأن هنالك الكثير أيضا مما يقال حول السلطة ودورها، لكنني أرى بأنه من الصحيح الانتقال إلى دورنا نحن كمجتمع، إذ أننا نوجه منذ عشرات السنين وبحق أصابع الاتهام إلى السلطة، لكن هذا غير كاف بالمرة ودور السلطة السلبي لا يعفينا من تحمل المسؤولية إنما يزيد من ثقلها علينا!
المعركة ضد العنف، هي معركة لكل واحد منا دور فيها: للأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، للقيادات القطرية والمحلية، لرجال الدين والنشطاء الاجتماعيين، وواجبنا أن نعمل على بناء البرامج والمشاريع والتركيز على أصعدة عدة، أبرزها:
- خطوات عملية لنبذ الاجرام المنظم: رغم كل ما تحمله الجملة التالية من ألم إلا أنها للأسف صحيحة: المشكلة الأساسية في مجتعنا لم تعد كما كانت بـ "الطوش العمومية" و "طيش الشباب" إنما بالأساس نتيجة للاجرام المنظم والذي عادة ما يقف خلفه في كل بلدة وبلدة شخصيات معروفة على المستوى الاجتماعي، السياسي والاقتصادي، وبدلا من أن يؤدي ضلوعها في عالم الجريمة إلى عزلتها نجده يشكل بالنسبة لها بطاقة مرور لاقتحام الصفوف الأولى في مجالسنا أو مساجدنا ونوادينا، بينما المطلوب هو فرض العزلة التامة على كل من يتعامل بالإجرام المنظم وهنا، ثمة دور مركزي وأساسي على القيادات في السلطات المحلية واللجان الشعبية ولعل هذه هي المسؤولية الأكبر والتحدي الأساس!
- تحصين شبابنا من الإزلاق إلى عالم الجريمة: الغالبية الساحقة من ضحايا الإجرام هم من الشباب، وهم بالغالب ضحايا صراعات لا ناقة لهم فيها أو جمل، إنما هي الظروف القاسية في مجتمعاتنا وانعدام الآفاق المستقبلية لدى شبابنا تجعل بعضهم مرتزقة في جيوش عصابات الإجرام المنظم، ووقف هذا النزيف يتطلب من مدارسنا، من مربينا، مثقفينا ومؤسساتنا التربوية والاجتماعية إلى الاستثمار أكثر فأكثر بالأجيال الشابة، بدءا بالتوعية والتأكيد منذ الصغر على القيم الإنسانية النبيلة وعلى ضرورة وحدتنا وحصانتنا الجماعية كمجتمع وشعب للتصدي للأخطار المحدقة بنا، ووصولا إلى العمل على فتح الآفاق المستقبلة من خلال معالجة الهموم اليومية وعلى رأسها إيجاد أماكن العمل وأماكن السكن.
- وضع حد للعنف المجتمعي وإلغاء الآخر: نحن نعاني من عنف مجتمعي مسكوت عنه، وعدم علاجه يشكل أرضية خصبة لتفشي العنف عموما. هذا العنف يستهدف بين الحين والآخر، مشاريع فنية وثقافية ورياضية، مرة بحجة الدين ومرة باسم العادات والتقاليد. هذا التوجه الإقصائي، قد يكون الأخطر كونه يشرعن العنف ويجعله سياجا لحصانة مجتمعنا مع أنه العكس التام لذلك. هنا علينا أن نحذر من أن يكون الفرز بين من هو متدين وغير متدين، وعلينا ألا نسمح بجعل ثلة من المتعصبين وكأنهم هم دون غيرهم أوصياء على الدين، إنما علينا أن نتعامل مع الأمر بحساسية، بالتعاون مع جهات عدة أبرزها رجال الدين الوسطيين المنفتحين، وأعتقد أنهم ليسوا قلة قليلة.
- مواصلة الضغط على السلطة: كل ما ذكر آنفا وإن نفذ وطور إلى جانب أفكار أخرى لا يعني بأي حال من الأحوال، تنازلا عن تحميل السلطة لمسؤوليتها، ففي النهاية، الجماهير العربية وقياداتها ليست مطالبة بأخذ القانون إلى يديها وعليها أن تواصل الضغط على السلطة من أجل أن قوم بدورها في كافة المستويات وليس فقط في مجال فرض القانون ومن خلال الأذرع الأمنية.
هذا الضغط يكون من خلال السلطات المحلية والعمل البرلماني والمهني لكنه أساسا يكون من خلال الضغط الجماهيري والشعبي وهنا أود لفت الانتباه إلى ضرورة عدم التسليم بالتنازل عن الاعلام الإسرائيلي كأداة هامة للضغط على السلطات. نعرف أن الاعلام العبري المركزي تعامل مع قضايا العنف في المجتمع العربي بشكل عام من منظور استعلائي يعتمد التهويل والتعميم ويلقي بالمسؤولية على أكتاف المواطنين العرب، بينما يحتم عليه واجبه المهني والأخلاقي مسائلة الدولة عن دورها، وهو أمر ندرك أنه ليس في متناول اليد حاليا، لكن لا بد من الإصرار لانتزاعه.
كانت هذه محاولة للمساهمة بالنقاش الدائر حول العنف وأساليب مواجهته، ونحن في جمعية سيكوي، الجمعية، العربية اليهودية لدعم المساواة في البلاد، نعمل في الآونة الأخيرة على دراسة معمقة للأمر، للبحث بالوسائل التي قد نتمكن من خلالها بأن ندلو بدلونا في هذا المجهود الجماعي الهام.
[email protected]