كنتُ أعتقد أن "الألتسهايمر" (ألزهايمر – فقدان الذاكرة وعدم التركيز) و "الأوتيزم" (التخلف العقلي) و "الشوزيفرينيا" (إلانفصام) و "المينتال ريترديشين" (التخلف العقلي)... هي أمراض طبيعية ونفسية تصيب الانسان فقط إثر عطب مادي في خلاياه او أزمة نفسية ما. لكن بيانَيْ "الجبهة" و "التجمع" بخصوص بيان / قرار دول الخليج بأن "حزب الله" تنظيم إرهابي، جعلني أفكر بأن تلك الامراض قد تصيب الأحزاب ايضا. وبناء عليه بالإمكان الحديث عن التسهايمر أو أوتيزم حزبي، أو عن فكر وسياسة مُصابَيْن بالتخلف العقلي او الإنفصام السلوكي.
تُصدر دول الخليج الست (السعودية وقطر وعُمان والكويت والبحرين وإتحاد الإمارات) بيانا تتهم فيه حزب الله بالإرهاب. هي الراعية الداعمة للإرهاب – اموالا نفطيّة وغازية وفكراً وهابياً وأصولياً وإخوانياً متأسلماً متخلفاً وفضائيات اعلامية... تتهم حزب الله بالأرهاب. والدليل تدخله هو (لاهي) في كل من سوريا والعراق واليمن. وتسعيره (لاهي) للطائفية والاحترابات السنيّة – الشيعية. كذلك إنحيازه لإيران، لا إنحيازها هي لحلف ناتو الامريكان وتعاونها مع سلطان دولة العثمان لتجزيء دول العربان.
البيان / القرار الخليجي لا يخص ابداً "إرهاب" حزب الله في مقاومته للاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان. فالاحتلال انتهى. وهنالك اتفاق هدنة بين حزب الله واسرائيل. وهذه اصبحت أصلا "دولة شقيقة" لغالبية دول الخليج، وللسعودية وقطر منها اولاً. ولا يتطرق البيان لاستمرار احتلال اسرائيل لفلسطين.
بناءً عليه نتساءل ما الحاجة والدافع لأن يصدر "التجمع" و "الجبهة" بيانَيْن يقولان فيهما ان حزب الله حزب المقاومة في جنوب لبنان، وان الامبريالية والرجعية العربية تتآمران على فلسطين وتعملان على تسعير الاحتراب الطائفي، وان مقاومة الاحتلال الاسرائيلي حق وواجب؟
يتواجد وينشط الحزبان في اسرائيل. وتعنيهما بالأساس القضية الفلسطينية وقضايا الجماهير العربية الفلسطينية داخل اسرائيل. وهذا الأمر ليس هو الدافع لبيان دول الخليج، وهي اصلاً لا تتطرق ابداً لهذا الموضوع في دمغها لحزب الله بالأرهاب. ورغم هذا تطرز احزابنا البيانات التي تجرّ عليها الويلات من انفلات عنصري يميني صهيوني. حتى احزاب الوسط واليسار الاسرائيلي وصحيفة هآرتس العقلانية وبعض كتابها التقدميين شاركوا في موجة التحريض والنقد للجبهة وللتجمع بسبب بيانيهما.
بالمقابل آثرت "الحركة العربية للتغيير" برئاسة الطيبي، وكذلك الحركة الاسلامية الجنوبية، عدم اصدار حتى موقف او تصريح بخصوص بيان دول الخليج. حتى "حماس" صمتت ولم تُدلِ بدلوها. فهم هؤلاء ان السكوت قد يكون من ذهب، عندما تكون القضية المطروحة لا تخصك وقضاياك مباشرة. وحدهم "عقلاء" الجبهة والتجمع لم يعيا هذا.
هنا نعيش – هنا نكافح
دعونا، يا "جبهة" ويا "تجمع"، نحدّد نقاط الاختلاف حتى نتفق. وبربكم كفوا عن الزعيق، في وجه من ينتقدكم على تسرعكم وعدم حكمتكم، بأن المقاومة حق وواجب وليس ارهاباً. وبأن الامبريالية والرجعية العربية تعملان على تفسيخ العالم العربي وقمع شعوبه وتسعير الطائفية داخل دوله. نتفق معكم على هذا، وليس بهذا الخصوص نناقشكم او نختلف معكم.
نختلف معكم لأنكم، اولاً، قمتم بزج أنفسكم في إصدار بيان رسمي على بيان خليجي لا يتطرق ابداً للقضية الفلسطينية ولقضايا شعبكم في اسرائيل، ولا لاسرائيل عموما. وكان بإمكان أي عضو عندكم مثلا أن يكتب مقالاً باسمه في صحيفة حزبه يمزق فيه بيان دول الخليج تمزيقا. كنت أتمنى مثلاً ان يقوم عضو برلمان تجمعي بفعل هذا كاتباً ان قطر مثلا، كسائر اخواتها الخليجيات، تدعم الارهاب وترعاه ماليا وسلاحاً ورجالاً مقاتلين في كل من سوريا والعراق واليمن.
ونختلف مع "الجبهة" و "التجمع"، ثانياً، لأنهما تناسيا انهما يعملان في اسرائيل، وما قد يجره عليهما بياناهما من تحريض منفلت ومن اساءة كبيرة لمعركتهما الاساسية من أجل إنهاء الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، ولتحقيق المساواة القومية والمدنية لشعبهما – للجماهير العربية الفلسطينية داخل اسرائيل.
ونختلف معهما، ثالثاً، لأنهما هما "الواعيان" لم يعيا واجب الاحزاب بأن تأخذ بعين الاعتبار الظروف الزمانية والمكانية (الزمكانية) لممارساتها السياسية ولبياناتها وما قد تجرّه عليها وعلى شعبها من ردود فعل، وكذلك من مسّ وتخريب على القضايا الوطنية الاساسية التي يجب ان تكون شغلها الشاغل في الزمان والمكان المعطى الذي تنشط فيه. نريد لقيادة أحزابنا ان تنتصر لقضايا شعبنا الحارقة هنا، لا ان تسهّل على العدو والخصم التخريب عليها. والمقصود بـِ "عليها"- على القضايا وعلى القيادة.
تتفاقم العنصرية في البلاد. يصل التحريض على المواطنين العرب الى حد التحريض الدموي. سائبة دعاة الأبرتهايد والترانسفير والفشستة تعبث فساداً وإفساداً في خلايا المجتمع الاسرائيلي تجاه المواطنين العرب. ممثلوها يحتلون كراسي الوزارات الحكومية وشتى مرافق الدولة. يجري حظر احزاب وأطر وجمعيات اهليه تُعنى بشؤون العرب. نتنياهو ومَنْ هو على يمين يمينه من زمرة إئتلافه، جعلوا من التحريض على العرب والقوى الديمقراطية وأحزابها رياضة وثقافة جماهيرية، وخشبة قفز لضمان استمرار حكمهم.
اما "الجبهة" و "التجمع: فينشغلان، في ظل هذه الأوضاع بالذات، باصدار بيانات على ان حزب الله ليس تنظيما ارهابيا. فتشتغل عندها كل اسرائيل ووسائل إعلامها بنا متهمة ايانا بكوننا دعاة وداعمين للارهاب. ستقولون لي – كما تحب عضوة كنيست ان تردد: هم الارهابيون وليس خطابنا هو الذي يجعلهم هكذا، ولا نقبل أن يحددوا لنا فحوى خطابنا. اجيبكم: هم رب الارهاب. والذي يحدد خطابي هي معاناه شعبي، وقضاياه، وامكانياته. لكني أكون مسرفاً في غبائي إن سهّل خطابي على عدوي امكانية تمرير مخططاته ضدي.
أنا لا أبحث بهذا عن إرضاء العدو وطلب ودّه، بل أبحث عن أجدى الطرق، لإعاقة تنفيد مخططاته ضدي، والتضييق على تفشي تحريضه بحقي كشعب بين الناس. ونعم بين الناس اليهود اولا. فعلى حد علمي نحن نعيش في دولة ذات اغلبية يهودية كبيرة. وعلى حد علمي أنتم تراكضتم لتصبحوا اعضاء كنيست / برلمان في "دولة اليهود". ومعلوماتي تقول أن شعبكم انتخبكم وأرسلكم للبرلمان حتى تمثلوا قضايانا وتستلوا له ولَوْ بعض حقوقه، ولاّ... لأ؟ وقبل ان تتهربوا من الإجابة عن طريق اتهامي بأني "منبطح ومهادن واساوم على كامل حقوقي بشحذ فتات المائدة"، أجيبكم: إن تنازلتم عن حقي في المساواة القومية والمدنيه ولا أقل منها وعن كرامتي القومية العربية والوطنية الفلسطينية، عندها لا أريد لا حقوقي ولا أن تمثلوني، ولا أريدكم!
البوميرنغ
الى حزب الله وإفتراء الارهاب تنجّر الجبهة بالانشغال. حزبها الشيوعي علّم شعبا بأسره جدلية الكفاح بين الكرامة والخدمات، وعقلانية النضال العنيد لاستلال اكثر ما يمكن من الانجازات لشعبنا بأقل ما يمكن من الخسائر التي يضطر لتكبدها في سبيل هذا. والى حزب الله يهرب التجمع في انشغالاته، علماً بأن تصريحات بعض قادته حتى الأمس القريب نصّت على ان حزب الله كفّ عن كونه حزب مقاومة بسبب ممارساته في سوريا وعلاقاته بايران.
بيان "الجبهة" وبيان "التجمع" – (رغم بعض الاختلافات في الفحوى) - أساء لهما وسبّب الضرر لشعبنا ولقضاياه، ولوصول خطابنا للوسط اليهودي، وخدمَ نتنياهو وسياسته. لذا أشبّه البيان بسلاح "البومِرَنغ" – ارتدت الاسهم ونيران السلاح على مطلقها. خرج الصياد للإصطياد فعاد مصطاداً. خرج الرياضي للسباق بعد ان أطلق الرصاص على رجليه. نزل لاعب كرة القدم الى الملعب لتحقيق الانتصار لفريقه فسجّل هدفا ذاتيا في مرماه الخاص.
لن انشغل بمناقشة حزب التجمع على بيانه. فهذا الحزب، والحق يقال، كان في بيانه أمينا لذاته ولنهجه ولتلوّنه. شعارات تقدميه وثورية راقيه كلاميا، وبالمقابل ممارسات قميئة وانتهازية فعلاً . في الأمس قصور الاسد هي عرين القومية والوطنية، وغداً هو سفاحها. البارحة دول الخليج قاعده امريكية ورأس الحربه ضد العروبة والثورة الايرانية، واليوم قطر هي حجيجنا ومربط خيلنا ووليّة نعمتنا. الموقعُ يقرّر الموقف. ومن حضر السوق باع واشترى. ولكل شيء ثمن... حتى للقومية والوطنية وللأخلاق وللقيم.
سانشغل بالحزب الشيوعي – بالجبهة. من المؤلم ان يكبو هذا الهمام، وقد كثرت كبواته منذ اواخر ثمانينات القرن الماضي حتى اليوم. اعتقدت دوما ان كبواته تعود الى عدم انفتاحه وتجدده فكريا وتنظيميا وقيادات شابه. استعرض منذ سنوات قياداته الجديدة الشابة واتفحص وعيها النظري والسياسي. أمام هكذا "تجديد" اتمنى عودة القديم (وطبعا لا اعمّم على جميع القدماء والجدد). ومن اسوأ الامور ان يكون التجديد هو الانزلاق نحو تقليد الاخر والانجرار وراءه واضاعة البوصله الذاتية. النسر اراد تقليد طائر الحجل لم يتقن كيف يدرج ونسى كيف كان يحلق ويطير.
هذا ليس حزبكم وحدكم
يا شيوعيون ويا جبهويون
اقول: من الطبيعي ان يتمخض حزبالتجمع الذي كفّ عن كونه تجمعا وطنيا قومياً ديمقراطياً، عن إصدار ذاك البيان البائس بخصوص رفض اعتبار حزب الله تنظيماً إرهابياً. وخصوصاً أن النص يفيض بالرقص الاستغبائي لعقولنا. هم أصلا كفّوا عن اعتبار حزب الله حزب مقاومة بسبب موقفه من الأزمة السورية. وهم يدينون لفظياً قرار اعتباره منظمة إرهابية دون توجيه أي نقد لدول الخليج التي اتخذت ذاك القرار. وقطر بالنسبة لهم دولة مانحة... ودولة ممانعة (إحّم. إحمّ). "أعذر وأتفهم" التجمع. الموقعُ، بالنسبة له، هو يحدّد الموقف.
اما اللامفهوم واللا منطقي هو إنجرار الشيوعيين / الجبهويين إلى إصدار ذاك البيان. فعلى مَنْ يا رفاق تزاودون، ووراء مَنْ تنجرّون، وأي صبيان عليكم ترئسّون، ولأية صراعات حزبوية داخلية حزبكم تجرّون، ومَنْ مِن قادتكم تريدون أن تُحرجون، وبأي حق على تاريخكم وتجربة قياداتكم التاريخية تدوسون؟ سأسكت عن الكلام المباح ليس لأنه أدركني الصباح. وانما لأن عندي من المعلومات الداخلية ما لا أريده الأن ان يستباح.
لقد حرقتم يا هؤلاء ببيانكم ذاك كل ما نجح بتحقيقه حتى الآن النائب أيمن عودة ورفاقه البرلمان وذلك عن طريق خطابه القومي والخدماتي، وفهمه الراقي لجدلية الوحدة والتناقض بين الهويّة القومية العربية الفلسطينية والجنسية الإسرائيلية ووجوب ربطهما بالكفاح الديمقراطي العام في اسرائيل، وإتقان مخاطبة الشارع اليهودي.
لم يخترع عودة هذا الخطاب. وهو خطاب ليس ملكاً له ولا حكراً عليه. وهو لم يتأسرل ولم يتصهين، كما يدّعي تجار الكلام المزاود ومنهم للأسف بعض ومنهم، للأسف، بعض صبيان "أهل البيت". عودة ابن لهذا البيت –الحزب- العريق. بين صفوف الشيوعيين والجبهويين نشأ. ومن جامعة "الاتحاد" و "الجديد" و "الغد" تخرّج.
لقد استطاع هذا الحزب العملاق بثوريته الحكيمة وبحكمته الثورية أن يعي زمكانيّة وجوده وشعبه، وأن يدمج بشكل خلاّق بين كفاحه لتحصيل المطالب القومية العامة ونضاله لاستلال الحقوق الخدماتية المدنية، وأن يحقق المكاسب لشعبه. هذا بالإضافة الى انتهاجه طريق الكفاح الديمقراطي العربي اليهودي المشترك. هذا ما جرى تلخيصه بشعار من كلمتين:"كرامة وخدمات". وعلى هذا الطريق يواصل ايمن عودة ورفاقه السير بفكرهم النيّر وبخطابهم الذي لا يُنفر.
نناشدكم، يا بقية العقلاء الحكماء في هذا الحزب وهذه الجبهة، الا تسمحوا لبعض "الصبيان" سياسياً وفكرياً، بأن يعبثوا بهذا التاريخ. هذا ليس تاريخكم وحدكم. وهذا ليس حزبكم وحدكم يا رفاق. وهذه ليست جبهتكم وحدكم. هذا تراث وملك شعب بأسره!واجب الحزب أن يحمي شعبه أولاً، لا أن يحتمي به. والحزب الذي لا يحتضن شعبه وهمومه لن يجد شعباً يحتضنه ويحميه.
[email protected]