استطاعت الهواتف الذكية تحويل عشرات، لا بل مئات الملايين، من الأشخاص في جميع أنحاء العالم إلى لاعبين محترفين لألعاب الفيديو مثل (Angry Birds)، و(Temple Run)، أو(Candy Crush)، ولكن مع ازدياد عدد الألعاب التي وجدت طريقها إلى جيوب مستخدمي الهواتف الذكية وحقائبهم، ازداد أيضاً عدد التقارير التي تشير إلى إدمان المستخدمين عليها.
تبعاً للموقف الرسمي الذي أعلنت عنه الجمعية الأمريكية للطب النفسي، فإنه لا يوجد حتى الآن بيانات كافية لتحديد ما إذا كان هناك حالة من الإدمان الحقيقي التي تسببها هذه الألعاب، لكن التقارير الحالية بدأت تأتي في معظمها من أمهات كن منهمكات جداً في لعب (Candy Crush) لدرجة أنهم نسين أن يحضرن أبناءهن من رياض الأطفال، والكثير من الأشخاص الذين أشاروا بأنهم يشعرون بنوع من الإدمان حقاً على هذا النوع من الألعاب.
من جهة ثانية، فقد بيّن استطلاع تم إجراؤه من قبل (Ask Your Target Market) بأن 28% من الأشخاص يلعبون بألعاب الفيديو المحملة على هواتفهم الخلوية خلال العمل، وأن 10% من الأشخاص وجدوا أنفسهم في جدال حول موضوع إضاعتهم لوقتهم في اللعب مع أقربائهم، كما أشار التقرير بأن 30% من الأشخاص يعتبرون أنفسهم مدمنين على هذا النوع من الألعاب، ولكن ما الذي يعطي هذه الألعاب مثل هذا التأثير الدراماتيكي على الأشخاص بالضبط؟
كيف يمكن لألعاب الهواتف الذكية أن تختلف عن الألعاب من الطراز القديم؟
على النقيض من ألعاب الطفولة التي تتضمن مشاركة أشخاص حقيقيين، أو تتضمن على الأقل التعامل مع كائنات حقيقية في حيز مكاني حقيقي، فإن ألعاب الهواتف الذكية لا تتطلب شيئاً، كما أنه ومن ناحية أخرى جزء أساسي من الإشباع المتوقع في الألعاب القديمة كان يتمثل باختيار اللعبة التي سيتم لعبها في كل مرة والتحضير لها (وضع قطع اللعب في مكانها الصحيح، ترتيب الدمية، تحديد الأدوار والشخصيات، أو تحديد من سيكون صاحب الدور الأول في اللعب).
بالإضافة إلى ذلك فإن ألعاب الهواتف الذكية تختلف أيضاً عن ألعاب الفيديو التي كان يتم لعبها على أجهزة الكمبيوتر، ففي ألعاب الفيديو الخاصة بالكمبيوتر، نحن نأخذ عموماً دور شخصية ما، مثل دور البطل الخارق، أو لاعب كرة القدم، أو المحارب، أو ما شابه ذلك، وهذا يمكن أن يشبع الخيال ويعطي حواسنا وعواطفنا تجربة جديدة، حيث أن ممارسة هذه الألعاب تؤدي عادة إلى رفع مستويات الأدرينالين في أجسامنا، وهذا يوقظ داخلنا مشاعر قوية ومختلفة تترواح بين القوة، الإحباط، الإشباع، والمتعة.
من هنا يمكن القول بأن الرغبة في لعب ألعاب الهواتف الذكية لا تنبع عن الحاجة للانخراط في أي نشاط مشترك أو إشباع للمخيلة، حيث أن الحالة الإشباعية التي تعطيها هذه الأنواع من الألعاب تنبع من تغييرها للحالة النفسية، فتحديد التطبيق وبدء اللعبة، لا يلزمه أي نوع من التحضيرات أو إيجاد الأفكار الممتعة أو أي شيء آخر، فكل ما عليك امتلاكه للعب في هذه الألعاب هو الرغبة في اللعب.
تظهر هذه الرغبة كما يظهر الشعور بالجوع أو العطش، وتماماً مثل هذين الشعورين، فإن هذه الرغبة لا تتطلب أي معالجة فكرية في المستويات العميقة من الدماغ، حيث أن الدوافع البدائية تصل إلينا من مناطق منخفضة المستوى من الدماغ، مثل الجهاز الحوفي، الذي يشارك في توليد العواطف والدوافع.
كيف تتولد الرغبة؟
يبدو بأن مصممي اللعبة قد وصلوا إلى التوليفة الرابحة، وهي “ludic loop”، هذه التوليفة تستند على الأسس السلوكية البشرية، ومبدؤها بسيط جداً، وهو توليد نتائج كبيرة رداً على عمل ما بسيط، مما يشجع على القيام بهذه السلوكيات بشكل متكرر، أو حتى قد يصل إلى حد الهوس، وأقرب مثال على هذا المبدأ هو آلة السلوت (Slot Machine) التي تشجع السلوك القهري، حيث أنك تنفذ إجراء معين وتتلقى في المقابل نوعاً معيناً من التعزيز، فالجهاز يستجيب لحركتك بالأضواء، وتغيير الألوان، والأصوات، وأحياناً بالمكافأة المالية، وهذه المكافأة تجعلك تكرر العمل ذاته مراراً وتكراراً.
غالباً ما تكون ألعاب الهواتف الذكية بسيطة وسهلة الفهم، ولا تتطلب أي موارد معرفية، بحيث يتسنى فهم مبادئها الأساسية بسهولة من قبل الأطفال والكبار على حد سواء، ففي البداية يكون هناك نظام لتعليم اللاعب كيفية لعب المراحل، وبهذا فإنه في كل مرة يتقدم فيها اللاعب لمستوى جديد، يتجدد لديه روح التحدي، وبالتالي تتجدد الـ”ludic loop” والرغبة في الاستمرار في تلقي تلك الجرعات جديدة من الإشباع، مما يجعلنا نلعب مرة أخرى وأخرى.
تأثير الدوبامين
يعزى انجذابنا لهذا النوع من الأعمال إلى ناقل عصبي يسمى الدوبامين، وهي مادة كيميائية موجودة في الدماغ، وعلى الرغم من أن العلماء كانوا يعتقدون في البداية بأن الدوبامين يرتبط فقط بمشاعر المتعة (حيث وجد أن هناك مستويات مرتفعة من الدوبامين يتم إفرازها عند القيام بأنشطة محببة مثل تناول الشوكولاته أو ممارسة الجنس، أو الاستماع إلى الموسيقى المفضلة)، ولكن الأبحاث التي تم إجراؤها على الدوبامين خلال العقد الماضي بينت بأن هذا الناقل يمتلك لوظائف إضافية إلى جانب تفعيله لشعور الإشباع والمتعة.
تساعدنا جزيئات الدوبامين في التعرف على الأنماط وتنبيهنا – من خلال انخفاضها إلى مستويات متدنية- عند الانحراف عن الأنماط المألوفة التي تعلمناها سابقاً، فخلايا الدوبامين تعمل باستمرار على خلق أنماط عمل بناء على الخبرات التي نكتسبها، فمثلاً، عندما يسمع الطفل خطوات أمه وهي تأتي مسرعة إليه بعد سماعها لبكائه المتكرر في كل مرة، يقوم دماغ الطفل بتكوين نمط يقوم على أن البكاء يتم مقابلته دائماً بالتعزيز الإيجابي من قبل الأم، وهذا النمط يجعل مستويات الدوبامين تزداد في دماغ الطفل كلما سمع خطى الأم حتى قبل وصولها، وفي كل مرة تحدث فيها خلايا الدوبامين تنبؤات خاطئة (أي عندما يبكي الطفل ولا تأتيه الأم) يقوم الدماغ بإرسال إشارة كهربائية خاصة تسمى إشارة العنانية (habenular) رداً على هذا التنبؤ الخاطئ مما يخفض قليلاً من مستويات إفراز الدوبامين في الدماغ.
الغرض الأساسي من هذه الخلايا هو التنبؤ بالأحداث، حيث أنها تريد أن تعرف دائماً ما هي الأفعال التي يمكن أن ينجم عنها المكافأة، ومن وجهة نظر خلايا الدوبامين، فإن العالم الافتراضي لا يختلف عن العالم الحقيقي، وبهذا تكون الأنماط التي تولدها آلات القمار وألعاب الهاتف هي أنماط لا بد من توقعها والتعرف إليها، لذلك فعندما نلعب في آلة القمار أو بلعبة (Candy Crush)، فإن خلايا دماغنا تسعى لفك نمط آلية عملها، فهي تريد أن تفهم اللعبة، لاكتشاف سر النجاح فيها، والكشف عن الأنماط التي تتوقع حدوث المكافأة.
التوقع والمفاجأة
على الرغم من أن خلايا الدوبامين تستجيب عندما تتعرف على نمط مألوف، إلّا أنها تكون أكثر حماسة عند الحصول على مكافآت غير متوقعة، وبعبارة أخرى، فإن المكافأة تكون أكثر إمتاعاً عندما تكون أكثر إثارة للدهشة.
تم التعرف على هذا النوع من السلوكيات من قبل (سكينر) ، وهو أحد رواد علم النفس السلوكي، في خمسينيات القرن الماضي، حيث وجد أنه عندما تحصل فئران المختبر على مكافأة غير متوقعة عند ضغطها لدواسة معينة، فإنها تواصل الضغط عليها حتى بعد توقف وصول المكافأة، ومن هنا استنتج (سكينر) بأنه وبمجرد تأسيس دماغ الفئران لعلاقة سببية، فإن هذه العلاقة تحتفظ بقوتها بشدة حتى بعد انقطاع العلاقة عملياً.
التكنولوجيا تهزم التطور
على الرغم من أن خلايا الدوبامين التي تتحكم بعملية التنبؤ تحاول جاهدة فهم نظام المكافأة في اللعبة، إلّا أنها تتعرض للمفاجأة تلو الأخرى، فمن وجهة نظر خلايا الدوبامين، الرهانات هي مسألة حياة وموت، ومن أجل البقاء على قيد الحياة في العالم، فإن عليها تحديد أنماطه.
من الناحية المنطقية، فإنه يتعين علينا التخلي عن آلات القمار والألعاب المشابهة لكي لا نهدر قوة خلايا الدوبامين على أشياء أُثبت بأنه لا يمكن التنبؤ بها، ولكن بدلاً من فقدان الاهتمام في المكافآت العشوائية وغير ممكنة التوقع، فإن خلايا الدوبامين تصبح مدمنة عليها، فعندما نحصل على مكافأة، تتولد لدينا دفعة كبيرة من الدوبامين الناجم عن المفاجأة بحد ذاتها، ولكن بذات الوقت لا يكون بإمكان خلايا الدوبامين فهم هذا النمط، أو تعويد نفسها عليه، أو حتى تعلمه.
وهم السيطرة
لا تخضع آلات القمار والألعاب مثل (Candy Crush) دائماً لقواعد تسيطر عليها، لذلك قد يتكون لدى اللاعب انطباع بأنه فهم اللعبة، وربما يبدأ بمحاولة بناء إستراتيجية لفكها، ولكن ثمار العشوائية التي تشجع هذه المسألة الانطباعية تأتي من مجموعة من الأنماط والخوارزميات الغير مفهومة، فهي تعمل وفق شريحة صغيرة تعمل على توليد أرقام تم كتابتها بطريقة تعرف باسم العشوائية الهندسية.
في هذا النوع من الألعاب تعمل العشوائية على إبقاء خط رفيع بين السلوك العشوائي البحت ووهم إتاحة التحكم لمن يكتشف المنطق الخفي المعين الذي يحكم اللعبة، وهذا النمط يشجع اللاعب على الاعتقاد بأنه من الممكن أن يخطط للحركة المقبلة إستراتيجياً.
إن الشعور الزائف بالتحكم يعتبر من أقوى حوافز المتابعة، فعندما يخيل للشخص بأنه في موقع التحكم باللعبة، تعمل هذه اللعبة على جعله يكرر السلوك ذاته مراراً وتكراراً حتى مع عدم وجود مكافئة في المقابل أو مع عدم وجود نقطة للتوقف، حيث أنه لا يوجد هدف محدد سوى الشعور بالمتعة من ذلك الدفق العاطفي القليل المتقلب.
ماري بوبينس الصغيرة التي تعيش في داخلنا
على الرغم من أن النظرية لا تزال في مهدها، إلّا أن العامل النفسي أصبح جزء لا يتجزأ من تصميم هذه الألعاب، وهذا العامل النفسي يأتي من مكونات يمكن أن تفسر سبب شعبية وانتشار ألعاب متشابهة بالمضمون مثل (Tetris)، (Bejeweled)، و(Candy Crush)، هذا العامل يقوم على الحاجة الإنسانية لمطابقة وترتيب الأشكال العشوائية التي تظهر على الشاشة، في محاولة للعثور على نمط يقوم على أساس الشكل، أو ترتيب الأشكال بطريقة مناسبة، حيث أن هذا الأمر دائماً ما كان أداة لإشباع السرور على المستوى العميق من العقل بلا شك.
إن مطابقة الأشكال أو الأنماط هو هاجس أساسي لدى الإنسان، وهو مستمد من ذات المصدر الذي يشجع الأطفال على وضع الأشكال في الثقوب الصحيحة، حيث أن لدينا دائماً حاجة أساسية لترتيب الأشياء، ويبدو بأن الرغبة في ترتيب الأشياء الفوضوية واستعادة الوضع الأساسي لها يشبه الشعور بالقيام بمهمة ما، حيث أن ترتيب الأجسام العشوائية التوضع على الشاشة يبدو وكأنه مهمة أو عمل ما يتجسد في وضع الأمور في نصابها واستعادة النظام الأساسي.
نهاية، ليس من الضروري أن تكون جميع آليات إعطاء المتعة سيئة أو محفزة على الإدمان، حيث يمكن استخدام هذه الآليات في المساعدة على العلاج أو الوقاية من بعض أنواع الأضرار النفسية أيضاً، فقد تبين أن لعب (Tetris) بعد مشاهدة فيلم مرعب يحد من احتمال استعادة مشاهد الفلم مرة ثانية، كما ويمكن لهذه الألعاب التي تشجع على السلوك القهري أن تكوّن تحصين معرفي ضد اضطراب ما بعد الصدمة، وعلاوة على ذلك، كلما زادت حالة التوتر التي نعيش ضمنها في المجتمع، ازدادت الحاجة للحصول على وسائل للتخفيف منه، وبخاصة تلك التي يمكن حملها معنا في كل مكان.
[email protected]