طوني بلير مبعوث الرباعية الدولية السابق إلى منطقة الشرق الأوسط، يفشل على مدى عشر سنوات من عمره في منصبه الرسمي في إحداث خرق بين الكيان الإسرائيلي والأطراف الفلسطينية المختلفة، بما فيها السلطة الفلسطينية، في الوقت الذي كان فيه مقيماً وفريق عمله الكبير إقامة شبه تامة في فلسطين المحتلة، وكان يتقاضى راتباً عالياً، يفوق ذلك الذي كان يتلقاه من بلاده عندما كان رئيساً للحكومة البريطانية.
لست أدري ما الذي عمله بلير على مدى عشر سنوات تقريباً من وجوده في فلسطين وسيطاً للسلام، ومفاوضاً بينهم في الباطن، وهو الذي كان يعلم أنه مكروهٌ وغير محبوب من الجانب الفلسطيني والعربي، وأن العرب جميعاً ينظرون إليه على أنه مبعوثٌ غير نزيه، ووسيطٌ غير محايد، ورسولٌ كافرٌ بالمهمة، وغير مؤمنٍ بالرسالة، وأنه يعقد الأزمة، ويطيل في عمر المشكلة، ولا يذلل الصعاب، ولا يقرب بين الأطراف، فكان أن أنهى سنواته العشر في المنطقة، ليحصد الفلسطينيون وحدهم من بعده الهواء، فلا جنى خلَّفه، ولا زرعاً بذره، ولا آمالاً زرعها في النفوس لتبقى من بعده.
لكنه نجح بعد أقل من ثلاثة أشهر من تخليه عن منصبه، وانتقاله مستشاراً اقتصادياً في دولةٍ آسيوية، في إحداث خرقٍ كبيرٍ، قد يكون اختراقاً خطيراً في الجبهة الفلسطينية، وتغيراً جذرياً في المسارات السياسية والعسكرية لقوى المقاومة الفلسطينية، مما قد يمهد لاتفاق هدنةٍ طويلة الأمد، توقف فيها المقاومة عملياتها العسكرية، بما فيها إطلاق الصواريخ على البلدات الإسرائيلية، في الوقت الذي يمتنع فيه جيش العدو عن أعماله العدوانية ضد قطاع غزة، مقابل مكاسب مختلفة، منها رفع الحصار عن قطاع غزة، والموافقة على بناء ميناء بحري عائم بين قبرص اليونانية وغزة، وغيرها من التسهيلات الأخرى كالسماح بدخول الإسمنت والحديد ومواد البناء، والمساعدات الدولية المختلفة، للمباشرة في إعادة إعمار قطاع غزة.
قد لا تكون النتائج التي توصل إليها طوني بلير مع الأطراف الفلسطينية مفاجئة، وإن كانت بالنسبة للشعب والعامة مفاجئة وصادمة، فهي قد تكون مساعي مكملة لجهودٍ أخرى، ومتممة لمساعي بدأها آخرون، وقطعوا فيها شوطاً كبيراً، ولكنهم احتاجوا إلى جهودٍ أخرى، تحظى بمصداقيةٍ لدى العدو أكبر، فكان خيارهم الاستعانة بطوني بلير، الذي يتمتع بثقة الإسرائيليين، ويفاوض باسمهم، ويدافع عنهم، ومن قبل لبس قلنسوتهم، ودخل نصبهم التذكاري، وصلى فيما يسمى حائط مبكاهم، وأقسم أن يكون جندياً مدافعاً عنهم، وراعياً لحقوقهم، وضامناً لأمنهم، وحريصاً على مستقبلهم.
من المؤكد أن طوني بلير يعمل كل شئ لصالح الكيان الصهيوني فقط، وأن ما يحركه هي المصالح الإسرائيلية لا غيرها، وأنه ما استدرك ما فاته إلا ليحقق ما يريده وأسياده، فهو لا يضيع وقته سدىً، ولا يتخلى عن عوائده المالية كمستشارٍ في أكثر من دولةٍ بمئات آلاف الدولارات، إرضاءً لضميره، أو راحةً لنفسه، أو إتقاناً لعمله، وحرصاً على الأمانة والمسؤولية، فهو رجلٌ لا تهمه الجراح الفلسطينية، ولا تعنيه معاناتهم، ولا يهب لنجدتهم، ولا يتمعر وجهه غضباً من أجلهم، أو انتصاراً لهم.
يبدو أن الإسرائيليين باتوا يشعرون أن حصار غزة، والتضييق على أهلها، وضرب رجالات المقاومة، واغتيال وتصفية قادتها، وإعلان الحرب عليها، وقصفها من الجو والبر والبحر، وتدمير بناها التحتية، وهدم منازلها وبيوتها، وتهبيط جدرانها وأسوارها، وتنفيذ مجازر بحق سكانها، وقتل المئات من أهلها، لم يجد نفعاً في إضعاف المقاومة، أو وقف تنامي قدراتها العسكرية، ومنعها من التصنيع والتدريب والتأهيل.
بل إن هذه الإجراءات كلها قد أدت إلى تصليب المقاومة وزيادة قدراتها العسكرية، ومكنتها من امتلاك الأخطر، وصناعة الأقوى والأبعد، فضلاً عن أن هذا الإجراءات لم تمنع المقاومة من إرهاب المستوطنين وإخافتهم، وإجبارهم على ترك بلداتهم ومدنهم، بعد أن أدركوا أن المقاومة الفلسطينية ما زالت قادرة وقوية، وأن صواريخها تستطيع الوصول إلى كل مكان، في الوقت الذي باتت فيه دورياتها وفرق النخبة فيها قادرة على الوصول إلى عمق البلدات الإسرائيلية، والاشتباك مع جنود جيش الاحتلال خلف خطوط النار.
لذا يرى الإسرائيليون ومعهم جمهرة كبيرة من المستشارين، من كبار الضباط المتقاعدين، وغيرهم من قادة الأجهزة الأمنية، ومسؤولي الفرق العسكرية، بالإضافة إلى رأي مجموعة من السياسيين من الحكومة والمعارضة، أن الحصار سلاحٌ فاسد، وسبيلٌ خاطئٌ، وخيارٌ لا يحقق النتائج المرجوة، الأمر الذي دفعهم للتفكير في خلق مناخاتٍ من الرفاهية والرخاء، ينشط فيها الاقتصاد، وتزدهر خلالها التجارة، وتتحرك عجلة الإنتاج، وتبدأ مسيرة إعادة الإعمار، في الوقت الذي تنساب في حركة المواطنين دخولاً وخروجاً إلى قطاع غزة، دون عقباتٍ أو معوقات، الأمر الذي يرفع –بزعمهم- من كلفة المقاومة، ويضاعف من نتائجها السلبية على الشعب، الذي قد يدفع باتجاه المطالبة بوقفها، مخافة ردات الفعل الإسرائيلية، التي قد تكون أشد وأقسى، وأكثر قبولاً وتفهماً من الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا.
لا نظن أنفسنا أذكى منه وأشطر، وأعلم منه وأفقه، فهو ثعلبٌ مراوغ، وذئبٌ كاذب، وصيادٌ ماهر، لا تحركه إلا طرائده، ولا تغريه إلا فرائسه، فكونوا منه منتبهين، ومعه حذرين، ولا تغوصوا معه في مغامرات، ولا تعتقدوا أنكم ستسجلون عليه نصراً، بالنقاط أو بالضربات القاضية، أو أنكم ستتسللون عبره إلى مرامي العدو، وستسجلون في شباكه أهدافاً، فإنكم وإن ظننتم أنكم تستطيعون، أو أنكم فعلاً مررتم بعض الكرات، وسددتموها إلى شباكهم، فإن الحكم الدولي لن يحسبها، وإن اللجان المعنية والمسؤولية ستشطبها، فلا هدف في شباك العدو لا يخدم مصالحه، ولا اختراق في الجبهات يضر باستراتيجيته.
علينا أن نعد أصابعنا بعد مصافحة طوني بلير، فلا نطمئن إلى مصافحته، ولا نصدق ابتسامته، ولا نركن إلى وعوده، ولا نصغي إلى نصحه، فهو لا يسعى لخيرنا، ولا يعمل لخدمتنا، ولا نعتقد أن اللقاء معه مكسباً، واستقباله يرفع الحصار ويفرض الوجود، ويرفع أسهم مستقبليه، وينقذهم من مآزقهم، ويخرجهم من محابسهم، فاللقاء معه ليس مغنماً، والاجتماع به ليس مكسباً، فهو لا ينقذ غريقاً، ولا يشف مريضاً، ولا ينفع محتاجاً، بل إنه يغرق الغريق، ويجهز على الجريح، ويزيد في معاناة المريض، فإن من دمر العراق وحاصره، أو شارك في قصفه واحتلاله، إرضاءً لإسرائيل وحمايةً لهم، لهو على استعدادٍ لأن يضحي بالمزيد، وأن يخدم أكثر، طالما أنه وإسرائيل هما المستفيدان من صفقاته، والرابحان من جهوده.
[email protected]