الأسرة الشفاعمرية تلبس الأسود
هي الأقدار كالسهام إذا انطلقت لا تُصّدُّ وإذا قرعت أجراس الرحيل محال أن تُردَّ
عندما يرحل من نحب نشعر وكأن الحياة قد انتهت، والوقت يقف، تتعطّل السّاعات وتقف بنا الدنيا على أعتاب الذكريات الجميلة، والحنين لمن عاجل الرّحيل وتركنا نصارع لوعة الفُراق وحرقته.
فما أرهب الموت، وأمرَّه، و ما أقساه! يسعدنا بحبيب أو عزيز، فنهبه أفئدتنا ونملكه جوارحنا، ثم يأتي القدر الرّهيب بغدره وينتزعه منا بين عشية وضحاها دون سابق إنذار، ويسرق سعادتنا وأحلامنا!
نعم، لا أخفي كم كنت أخاف هذا اليوم والموقف، أكتب فيه كلمة رثاء وأتصوّر رحيلك المبكر ذهابا بلا إيابٍ، بلا طريق عودة، وأتحدّث عنك بصفة الغائب يا كبيرنا، مرشدنا ومعلمنا أيها العم الغالي على قلوبنا جميعًا.
يوم الجمعة العظيمة، عندما بدأت الشمس تخفي خيوط الظلمة وتتسلل نحو المغيب، فتتوارى أشعتها الشاحبة تأخذ اللون الذهبي كلون عباد الشمس، توقفت نبضات قلب رجل غالٍ على عائلته وذويه ليرحل عن عالمنا هذا ويترك لنا الذكريات والمحطات الجميلة.
في هذا المقام، أود أن أؤكد أن كلماتي هذه لا علاقة لها بصلة القرابة، إنّما هي تصور الحقيقة التي سُطِّرت بكل مصداقية ومهنية. وليتها كانت توفّيك ما تستحقّ، وليت مدادي يكفيك، لأصف ينبوع عطائك وعطفك ووفائك.
للرّاحل سيرة ومسيرة إنسانية، لكل ما لهذه الكلمة من معنى، إذ عرف بدماثة أخلاقه ومشاركة أبناء مجتمعه في مختلف مناسباتهم التي يشهد عليها الداني والقاصي.
كيف لا؟! وقد شبّ وترعرع في أحضان عائلة عريقة، أصيلة، كريمة ذات السيرة الحسنة التي حافظت على النسيج الاجتماعي، ولها دور إيجابي برقي المجتمع، وأيادٍ بيضاء ببناء جسور الألفة بين أطياف المجتمع كافّةً. إن هذا الكم الهائل من الجموع الغفيرة من محبيك ومعارفك، وكل من سمع عنك من كل طبقات وفئات المجتمع تتقدّمهم المئات من العمائم البيضاء والشخصيات الاعتباريّة ممثلة بأطياف وطبقات المجتمع قدمت لتشهد أنك صاحب فضل، بِر، وإحسان، ونبراسًا نهتدي به؛ لما قدمته وما تركتَ من بصمات واضحة وأكيدة في بناء جسور الألفة والتقارب والتحاور بين أفراد المجتمع الواحد، يشهد عليها الزمان ولا يمكن أن تمحوها الأيام، وستبقى محفورة في الوجدان لتقول وبعيون دامعة وقلوب مفعمة إيمانًا وتسليما لمشيئة العلي القدير، وداعا يا خيرة الرجال.
لقد غرست في نفوسنا وقلوبنا أسس التربية والقيم، لك زاوية في قلوبنا جميعا وخاصة أحفادك الذين حضنتهم وداعبتهم، لا نقول لك وداعًا لأنك باقِ في ذاكرتنا وقلوبنا، نعاهدك يا عمنا أننا لم ندفنك في ظلمة القبر وفي تربته السوداء، بل دفنّاك في مقبرة العائلة بين أهلك وجيرانك وحارتك التي أحببتها، حيث القلعة التاريخية تبسط ظلالها على تراب قبرك. عزاؤنا في ما تركت من خلف صالح يتحلى بالأخلاق العالية والأعمال الصالحة التي يفخر بها المجتمع.
خلال أيام العزاء، توافد على عائلة المرحوم آلاف المعزين من مختلف القرى المجاورة تمثل كافة أطياف وطبقات المجتمع، وألقيت عشرات الكلمات من قبل شخصيات دينية، سياسية، وتربوية تطرقوا جميعهم إلى مواقفه الإنسانية والعقلانية.
إمام الطائفة الشيخ أحمد أبو عبيد، قدم شهادة دينية أكّد من خلالها أن المرحوم كان خير سند لأهل الدين وقيامه بواجباته الدينية والاجتماعية على أفضل وجه.
ابنُه، المدير العام للمدرسة الشاملة " أ " على اسم الشيخ صالح خنيفس، المربّي سلمان أبو عبيد، ألقى كلمة العائلة جاء فيها: "حق الوالد على الابن يحتم علي أن أقف عند بعض الصفات والمزايا التي تحلى بها الوالد، كان رجل مجتمع من الدرجة الأولى، أحب الناس وبادلوه نفس الشعور، شاركهم بأفراحهم وأتراحهم، بمسراتهم وبأحزانهم، كان متواضعا إلى أقصى الحدود، كان وفيا وزوجا مثاليا، تمتع بالمزج ما بين الحزم واللين بتربيتنا وبالحنية مع أحفاده، وترفع عن الفئوية ...". ثم شكر الجموع الغفيرة التي شاركت في تشييع جثمانه.
رحمك الله وتغمدك بواسع رحمته وأسكنك الفردوس الأعلى
وإنّأ لله وإنّا إليه راجعون.
[email protected]