ولد محمود درويش في 13/3/1941 في قرية البروة الفلسطينية التي تقع في الجليل شرق ساحل عكا، طرد من البروة مع أسرته في السادسة من عمره تحت دوي القنابل عام 1947، ووجد نفسه أخيراً مع عشرات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، بعد أن تعرض الشعب الفلسطيني للاقتلاع وتدمير مدنه وقراه. "أول قرية لبنانية أتذكرها حينذاك هي رميش. ثم سكنا في "جزين" إلى أن هبط الثلج في الشتاء. وفي جزين شاهدت للمرة الأولى في حياتي شلالاً عظيماً.. ثم انتقلنا إلى الناعمة قرب الدامور. وأتذكر الدامور في تلك الفترة جيداً: البحر وحقول الموز.. كنت في السادسة من عمري، لكن ذاكرتي قوية، وعيناي ما زالتا تسترجعان تلك المشاهد.. كنا ننتظر انتهاء الحرب لنعود إلى قرانا. لكن جدي وأبي عرفا أن المسألة انتهت، فعدنا متسللين مع دليل فلسطيني يعرف الطرق السرية إلى شمال الجليل. وقد بقينا لدى أصدقاء إلى أن اكتشفنا أن قريتنا البروة لم تعد موجودة. -وجدت عائلة درويش قريتها مهدومة وقد أقيمت على أراضيها موشاف (قرية زراعية إسرائيلية) "أحيهود"، وكيبوتس يسعور-. فالعودة إلى مكان الولادة لم تتحقق. عشنا لاجئين في قرية أخرى اسمها دير الأسد في الشمال. كنا نسمى لاجئين ووجدنا صعوبة بالغة في الحصول على بطاقات إقامة، لأننا دخلنا بطريقة "غير شرعية"، فعندما أجري تسجيل السكان كنا غائبين. وكانت صفتنا في القانون الإسرائيلي: "الحاضرون- الغائبون"، أي أننا حاضرون جسدياً ولكن بلا أوراق. صودرت أراضينا وعشنا لاجئين".
عاش محمود في حيفا بعدما انتقلت العائلة إلى قرية أخرى اسمها الجديدة وامتلكت فيها بيتاً. "وفي حيفا عشت عشر سنين وأنهيت فيها دراستي الثانوية، ثم عملت محرراً في جريدة "الاتحاد" وكنت ممنوعاً من مغادرة حيفا مدة عشر سنوات. كانت إقامتي في حيفا إقامة جبرية. ثم استرجعنا هويتنا، هوية حمراء في البداية ثم زرقاء لاحقاً وكانت أشبه ببطاقة إقامة. كان ممنوعاً عليّ طوال السنوات العشر أن أغادر مدينة حيفا. ومن العام 1967 لغاية العام 1970 كنت ممنوعاً من مغادرة منزلي، وكان من حق الشرطة أن تأتي ليلاً لتتحقق من وجودي. وكنت أعتقل في كل سنة وأدخل السجن من دون محاكمة. ثم اضطررت إلى الخروج.
انتسب إلى الحزب الشيوعي وعمل في صحافة الحزب مثل الاتحاد، والجديد التي أصبح فيما بعد رئيس تحريرها. اتهم بالقيام بنشاط معاد لدولة إسرائيل؛ فطورد واعتقل خمس مرات 1961م، و1965، و1966، و1967، و1969، وفرضت عليه الإقامات الجبرية حتى العام 1970.
لمحمود درويش رأي غير تقليدي في سيرته الذاتية حين قال: أولاً ما يعني القارئ في سيرتي مكتوب في القصائد. وهناك قول مفاده أن كل قصيدة غنائية هي قصيدة أوتو- بيوغرافية أو سير- ذاتية، علماً بأن هناك نظرية تقول إن القارئ لا يحتاج إلى معرفة سيرة الشاعر كي يفهم شعره ويتواصل معه. ثانياً يجب أن أشعر بأن في سيرتي الذاتية ما يفيد، أو ما يقدم فائدة. ولا أخفيك أن سيرتي الذاتية عادية جداً. ولم أفكر حتى الآن في كتابة سيرتي. ولا أحب الإفراط في الشكوى من الحياة الشخصية ومشكلاتها. ولا أريد بالتالي أن أتبجّح بنفسي، فالسيرة الذاتية تدفع أحياناً إلى التبجح بالنفس، فيصوّر الكاتب نفسه وكأنه شخص مختلف. وقد كتبت ملامح من سيرتي في كتب نثرية مثل "يوميات الحزن العادي" أو "ذاكرة للنسيان" ولا سيما الطفولة والنكبة.
محطة موسكو
توجه إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة عام 1970. يقول محمود:
"أول رحلة لي خارج فلسطين كانت إلى موسكو. وكنت طالباً في معهد العلوم الاجتماعية، ولكن لم يكن لي هناك بيت بالمعنى الحقيقي. كان غرفة في مبنى جامعي.
أقمت في موسكو سنة. وكانت موسكو أول لقاء لي بالعالم الخارجي. حاولت السفر قبلاً إلى باريس لكن السلطات الفرنسية رفضت دخولي إلى أرضها في العام 1968. كانت لدي وثيقة إسرائيلية لكنّ الجنسية غير محددة فيها. الأمن الفرنسي لم يكن مطلوباً منه أن يفهم تعقيدات القضية الفلسطينية. كيف أحمل وثيقة إسرائيلية وجنسيتي غير محددة فيها وأقول له بإصرار إنني فلسطيني. أبقوني ساعات في المطار ثم سفّروني إلى الوطن المحتل.
كانت موسكو أول مدينة أوروبية وأول مدينة كبيرة أعيش فيها. طبعاً اكتشفت معالمها الضخمة ونهرها ومتاحفها ومسارحها.. تصور ما يكون رد فعل طالب فتيّ ينتقل من إقامة محاصرة إلى عاصمة ضخمة! تعلمت الروسية قليلاً لأتدبر أموري الشخصية. لكن اصطدامي بمشكلات الروس يومياً جعل فكرة "فردوس" الفقراء التي هي موسكو، تتبخر من ذهني وتتضاءل. لم أجدها أبداً جنة الفقراء، كما كانوا يعلّموننا.
فقدت الفكرة المثالية عن الشيوعية لكنني لم أفقد ثقتي بالماركسية. كان هناك تناقض كبير بين تصوّرنا أو ما يقوله الإعلام السوفييتي عن موسكو والواقع الذي يعيشه الناس، وهو مملوء بالحرمان والفقر والخوف. وأكثر ما هزّني لدى الناس هو الخوف. عندما كنت أتكلم معهم أشعر أنهم يتكلمون بسرية تامة. وإضافة إلى هذا الخوف كنت أشعر أن الدولة موجودة في كل مكان بكثافة. وهذا ما حوّل مدينة موسكو من مثال إلى مدينة عادية.
محطة القاهرة 1970 -1972
يتحدث درويش عن القاهرة، محطته الثانية بعد الخروج من الوطن فيقول:
"الدخول إلى القاهرة كان من أهم الأحداث في حياتي الشخصية. في القاهرة ترسخ قرار خروجي من فلسطين وعدم عودتي إليها. ولم يكن هذا القرار سهلاً. كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودي. أفتح الشباك وعندما أرى النيل أتأكد من أنني في القاهرة. خامرتني هواجس ووساوس كثيرة، لكنني فتنت بكوني في مدينة عربية، أسماء شوارعها عربية والناس فيها يتكلمون بالعربية. وأكثر من ذلك، وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرأها وأعجب بها. فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريباً والأدب المصري. التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائي الروحيين.
التقيت محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ وسواهما، والتقيت كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم. ولم ألتق بأم كلثوم وطه حسين، وكنت أحب اللقاء بهما".
يضيف: "عيّنني محمد حسنين هيكل مشكوراً في نادي كتّاب "الأهرام"، وكان مكتبي في الطابق السادس، وهناك كان مكتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطئ. وكان توفيق الحكيم في مكتب فردي ونحن البقية في مكتب واحد. وعقدت صداقة عميقة مع محفوظ وإدريس، الشخصيتين المتناقضتين: محفوظ شخص دقيق في مواعيده، ومنضبط، يأتي في ساعة محددة ويذهب في ساعة محددة. وكنت عندما أسأله: هل تريد فنجان قهوة أستاذ نجيب؟ كان ينظر إلى ساعته قبل أن يجيب، ليعرف إن كان حان وقت القهوة أم لا. أما يوسف إدريس، فكان يعيش حياة فوضوية، وكان رجلاً مشرقاً. وفي القاهرة صادقت أيضاً الشعراء الذين كنت أحبهم: صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وأمل دنقل. كان هؤلاء من الأصدقاء القريبين جداً. وكذلك الأبنودي. كل الشعراء والكتاب الذين أحببتهم توطدت علاقتي بهم. والقاهرة كانت من أهم المحطات في حياتي.
في القاهرة تمّت ملامح تحوّل في تجربتي الشعرية وكأن منعطفاً جديداً يبدأ.
كان يُنظر إليّ عندما كنت في الأرض المحتلة كوني شاعر المقاومة. وبعد هزيمة 1967 كان العالم العربي يصفق لكل الشعر أو الأدب الذي يخرج من فلسطين، سواء كان رديئاً أم جيداً. اكتشف العرب أنّ في فلسطين المحتلة عرباً صامدين ويدافعون عن حقهم وعن هويتهم. اكتسبت إذاً النظرة إلى هؤلاء طابع التقديس، وخلت من أي ذائقة أدبية عامة. هكذا أُسقطت المعايير الأدبية عن نظرة العرب إلى هذه الأصوات المقاومة بالشعر والأدب في الداخل. ومن القصائد المهمة التي كتبتها في القاهرة قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا" ونشرت في صحيفة "الأهرام" وصدرت في كتاب "أحبك أو لا أحبك".
محطة بيروت
"بعد القاهرة انتقلت إلى بيروت مباشرة.. عشت فيها من العام 1973 إلى العام 1982. حنيني إلى بيروت ما زلت أحمله حتى الآن. وعندي مرض جميل اسمه الحنين الدائم إلى بيروت. ولا أعرف ما هي أسبابه. وأعرف أن اللبنانيين لا يحبون مديح مدينتهم في هذا الشكل. ولكن لبيروت في قلبي مكانة خاصة جداً. ولسوء حظي، أنني بعد سنوات قليلة من سكني في بيروت، وهي كانت ورشة أفكار ومختبراً لتيارات أدبية وفكرية وسياسية، متصارعة ومتعايشة في وقت واحد، لسوء حظي، أن الحرب اندلعت. وأعتقد أن عملي الشعري تعثر حينذاك.
أعتقد أن أجمل ما كتبت ديوان "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق". ولكن بعد اندلاع الحرب صار الدم والقصف والموت والكراهية والقتل.. كل هذه صارت تهيمن على أفق بيروت وتعكره. وبعض أصدقائي هناك ماتوا وكان عليّ أن أرثيهم. وأول من فقدت هناك غسان كنفاني. وأعتقد أن الحرب الأهلية في لبنان عطلت الكثير من المشاريع الثقافية والفكرية التي كانت تجتاح بيروت. وانتقل الناس إلى جبهات مختلفة ومتناقضة ومتحاربة.
منذ بداية الحرب، كنت أعبّر لأصدقائي ومعارفي عن تشاؤمي من نتائج هذه الحرب. وكنت أطرح السؤال الآتي: هل كان في وسعنا ألا نُستدرج كفلسطينيين إلى هذه الحرب؟ كانت هناك أجوبة رسمية تقول إن دور الفلسطينيين في الحرب هو الدفاع عن النفس ومواجهة محاولة إقصائنا. ولكننا أخطأنا في بيروت عندما أنشأنا ما يشبه الدولة داخل الدولة.
كنت أخجل من اللبنانيين إزاء الحواجز التي كان يقيمها الفلسطينيون في الأرض اللبنانية ويسألون اللبناني عن هويته. طبعاً لكل هذه الأمور تفسيرات وتبريرات. ولكن كنت أشعر دوماً بالخجل. وكنت أطرح على نفسي أسئلة عدة حول هذه الأمور، حتى أمام أصدقائي المتحمسين للقضية الفلسطينية والحركة الوطنية. ومن هذه الأسئلة: ماذا يعني أن ننتصر في لبنان؟ هذا سؤال كان يلح عليّ دوماً. ولنفترض أننا أنهينا الحرب وانتصرنا، فماذا يعني الانتصار هنا؟ أن نحتل لبنان ونتسلّم الحكم في لبنان؟ كنت متشائماً جداً. ولم أكتب عن الحرب اللبنانية إلا كتابة شبه نقدية.
بعد أن وضعت الحروب أوزارها، الحروب الفلسطينية- اللبنانية أو الحروب الأهلية... تستطيع من خلال رؤية محايدة أن تنظر إلى الآثار الايجابية للتفاعل الفلسطيني مع الحياة الثقافية اللبنانية أو التفاعل اللبناني مع القضية الفلسطينية. هناك جوانب إيجابية فعلاً. هناك مركز الأبحاث الفلسطينية، مجلة "شؤون فلسطينية" ومجلة "الكرمل"، وسواها.. كنت أشعر أن وجودي في بيروت سيطول، ولم أكن أشعر بالحرج وكأنني مقيم في شكل شرعي. ولكن أن أكون مقيماً في شكل إجباري ومضاد لرغبة اللبنانيين عبر تعايشهم القسري معنا، فهذا كان يزعجني. وعندما خرجت القيادة الفلسطينية والمقاتلون الفلسطينيون من بيروت لم أخرج. بقيت في بيروت أشهراً عدة. لم أتوقع أن الإسرائيليين سيحتلون بيروت. ولم أجد معنى لخروجي في السفن مع المقاتلين. ولكن في صباح ذات يوم وكنت أسكن في منطقة الحمراء، خرجت لأشتري خبزاً وإذا بي أشاهد دبابة إسرائيلية ضخمة. دخلت إسرائيل قبل الإعلان عن الدخول. حينذاك وجدت نفسي وحيداً أتجوّل في الشوارع ولا أرى سوى الدبابات والجنود الإسرائيليين ورجالاً ملثمين. قضيت فعلاً أياماً صعبة جداً، ولم أكن أعرف أين أنام.
كنت أنام خارج البيت في مطعم، وأتصل بجيراني لأسألهم إن كان الإسرائيليون سألوا عني. إذا قالوا: نعم جاؤوا، فكنت أدرك أنهم لن يأتوا مرة أخرى، فأذهب إلى بيتي، أتحمّم وأرتاح ثم أعود إلى المطعم. إلى أن حصلت الكارثة الكبرى وهي مجزرة صبرا وشاتيلا. عندذاك تيقنت أن بقائي هناك ضرب من العبث والطيش.
رتّبت الأمر مع السفير الليبي في بيروت حينذاك، فهو كان في مقدوره أن يأخذني من منطقة الأشرفية التي كانت "الكتائب" تسيطر عليها، إلى سورية. ولكن كان عليه أن يجد طريقاً ليأخذني من بيتي إلى مدخل الأشرفية. اتفقنا مع ضابط لبناني أوجد لنا شارعاً كان سيمر به الرئيس الراحل شفيق الوزان، وكان هناك اتفاق بين الإسرائيليين والحكومة على ألا يتعرضوا لهذا الشارع. وفعلاً سلكنا هذا الطريق وخرجنا من بيروت. وعندما وصلنا إلى طرابلس، ذهبنا إلى مطعم لنأكل السمك بعدما مللنا أكل المعلبات. وبعدما دخلت الحمام لأغسل يديّ، نظرت إلى المرآة فرأيت أنفاً عليه نظارتان. لم أعرف صاحب هذا الوجه لثوانٍ. كأنني كنت أنظر إلى وجه آخر. وعندما وصلت إلى دمشق أقمت هناك أسبوعاً. وكان حصل حادث طريف جداً على الحدود السورية- اللبنانية. فالضابط اللبناني على الحدود الذي طلب أوراقي، وكنت أحمل جواز سفر تونسياً دبلوماسياً، وجد أن إقامتي قد انتهت وهذه مخالفة قانونية. قلت له: صحيح، ولكن ألا تسمع الأخبار؟ ألا تعرف أنه ما من سفارات أو دوائر تعمل؟".
جاء إلى دمشق أواخر 1982 ليحيي أمسية كانت مقررة على مدرج جامعة دمشق التي لم يتسع مدرجها للجماهير، فاضطرت الجهة المنظمــة إلى نقل الحــضور إلى مـــدرج الأسد في باصات النقل العام والعسكري، فوجئ الشاعر بأن المدرج والملعــــب مليئان فقال أحد الشعراء "الجندي" عبـــارته التي بقي محمود يرددها "والله لو قتلناه ـ نحــن الشــعراء ـ وشرحنا أسبابنا للقاضي سنأخذ براءة!!".
محطة تونس/ باريس
"غادرت دمشق إلى تونس ورأيت خلالها الرئيس عرفات والاخوان في مشهد تراجيدي. رأيت الثورة الفلسطينية تقيم في فندق على شاطئ بحر. كان المشهد مؤلماً جداً ويستدعي كتابة رواية عن هذا المصير. لكن عرفات سرعان ما أعاد بناء مؤسسته. وقال لي: واصل إصدار "الكرمل". كان مهتماً حتى بالجانب الثقافي. فقلت له أين أصدرها؟ قال لي: حيث تشاء، في لندن، في باريس، في قبرص.. ذهبت من ثم إلى قبرص كي أرتب شؤون الرخصة. وصدرت "الكرمل" من قبرص فيما كنت أنا أحررها في باريس وأطبعها في نيقوسيا وكان معاوني الكبير هو الشاعر سليم بركات".
عاش في باريس نحو عشر سنوات ولكن في شكل متقطع، إذ كان يسافر باستمرار. وبقي قريباً من منظمة التحرير في تونس.
يصف درويش إقامته في باريس بالقول:
"كانت باريس عبارة عن محطة أكثر منها إقامة أو سكناً. لا أعرف. لكنني أعرف أنه في باريس تمت ولادتي الشعرية الحقيقية. وإذا أردت أن أميّز شعري، فأنا أتمسك كثيراً بشعري الذي كتبته في باريس في مرحلة الثمانينيات وما بعدها. هناك أتيحت لي فرصة التأمل والنظر إلى الوطن والعالم والأشياء من خلال مسافة، هي مسافة ضوء. فأنت عندما ترى من بُعد، ترى أفضل، وترى المشهد في شموليته. علاوة على أن باريس جمالياً تحرّضك على الشعر والإبداع. كل ما فيها جميل. حتى مناخها جميل. في باريس كتب في وصف يوم خريفي: "أفي مثل هذا اليوم يموت أحد؟". ومدينة باريس أيضاً هي مدينة الكتّاب المنفيين الآتين من كل أنحاء العالم. تجد العالم كله ملخصاً في هذه المدينة. وكانت لي صداقات مع كتّاب أجانب كثيرين. وأتاحت باريس لي فرصة التفرّغ أكثر للقراءة والكتابة. ولا أعرف فعلاً إن كانت باريس هي التي أصابتني أم أن مرحلة نضج ما تمت في باريس، أم أنه تطابق العنصرين بعضهما مع بعض؟ في باريس كتبت ديوان "ورد أقل" وديوان "هي أغنية " و"أحد عشر كوكباً" و"أرى ما أريد" وكذلك ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" ونصف قصائد "سرير الغريبة". وكتبت نصوص "ذاكرة للنسيان" وغاية هذا الكتاب النثري التحرر من أثر بيروت، وفيه وصفت يوماً من أيام الحصار. معظم أعمالي الجديدة كتبتها في باريس. كنت هناك متفرّغاً للكتابة على رغم انتخابي عضواً في اللجنة التنفيذية. وفي باريس كتبت نص إعلان الدولة الفلسطينية. مثلما كتبت نصوصاً كثيرة ومقالاً أسبوعيا في مجلة "اليوم السابع". كأنني أردت أن أعوّض عن الصخب الذي كان يلاحقني في مدن أخرى".
عمان- رام الله
"بعدما أصبح في إمكاني أن أعود إلى "جزء" من فلسطين وليس إلى "جزء" شخصي بل إلى "جزء" من وطن عام، وقفت طويلاً أمام خيار العودة. وشعرت بأن من واجبي الوطني والأخلاقي ألا أبقى في المنفى. فأنا أولاً لن أكون مرتاحاً، ثم سأتعرض إلى سهام من التجريح لا نهاية لها، ثم سيقال إنني أفضل باريس على رام الله أو على غزة. وبالتالي اتخذت الخطوة الشجاعة الثانية بعد الخروج وهي خطوة العودة. وهاتان الخطوتان من أصعب الأمور التي واجهتها في حياتي: الخروج والعودة. اخترت عمان لأنها قريبة من فلسطين ثم لأنها مدينة هادئة وشعبها طيب. وفيها أستطيع أن أعيش حياتي. وعندما أريد أن أكتب أخرج من رام الله لأستفيد من عزلتي في عمان.
التوتر عالٍ جداً في رام الله. ومشاغل الحياة الوطنية واليومية تسرق وقت الكتابة. إنني أمضي نصف وقتي في رام الله والنصف الآخر في عمان وفي بعض الأسفار. في رام الله أشرف على إصدار مجلة "الكرمل".
ويكشف غانم زريقات صديق درويش عن بعض التفاصيل في حياته بالقول: "جاء محمود إلى عمان نهاية العام 1995، لأنها المدينة الأقرب إلى فلسطين أول الأمر، فعندما دخلت القيادة الفلسطينية إلى فلسطين بدأ محمود يفكر جديا في ترك باريس، وكان الخيار أمامه القاهرة أو عمان. بعض الأصدقاء، بينهم الدكتور خالد الكركي، الذي كان وزيرا للإعلام شجعوه ورحبوا به للإقامة في عمان، وقوبلت الفكرة بالترحاب الشديد وعلى أعلى المستويات في الدولة الأردنية، وعندما وصل محمود إلى عمان، بدأ يفكر في استئجار شقة متواضعة، كما كان الحال في تونس، الرجل الطيب المقاول الأردني مروان العبداللات رفض أن يؤجر محمود درويش، وحلف أيمانا كثيرة أن الشقة هدية ورفض أخذ ثمنها. ولكن محمود رفض بشكل قاطع هذا العرض، وأخيرا اشترى المنزل بسعر التكلفة. اختار عمان لأنها برأيه أفضل مدينة يمكن أن يختلي فيها بكل هدوء ويكتب، وهذه المدينة وفرت له حقا هذه الميزة، كما أن أصدقاءه قليلون جدا فيها. راق له هدوؤها وسهولة التنقل فيها، وارتبط بمجموعة علاقات منتقاة مع العديد من العمّانيين، الذين أحاطوه بكم هائل من الحب غير القاسي".
لم تختلف حياته في بيروت وباريس والقاهرة عن حياته في عمان وإن كان أبرز ما يميزها أن معظم وقت درويش في عمان كان للعمل الجاد، خير دليل على ذلك أعماله الشعرية جميعها التي صدرت عن دار رياض الريس في بيروت مثل: الجدارية 2000، حالة حصار 2002، لا تعتذر عما فعلت 2004، كزهر اللوز أو أبعد 2005، في حضرة الغياب 2006، أثر الفراشة 2008، معظم هذه الدواوين كتبت بين عمان ورام الله.
البيت
البيت بالنسبة لمحمود درويش له فلسفة خاصة فكما يقول:
"البيت يعني لي الجلوس مع النفس ومع الكتب ومع الموسيقى ومع الورق الأبيض. البيت هو أشبه بغرفة إصغاء إلى الداخل ومحاولة لتوظيف الوقت في شكل أفضل. ففي الستين يشعر المرء بأنه لم يبق لديه وقت طويل. وشخصياً أعترف بأنني أهدرت وقتاً طويلاً فيما لا يجدي، في السفر، في العلاقات وغير ذلك. إنني حريص الآن على أن أوظف وقتي لمصلحة ما أعتقد أنه أفضل وهو الكتابة والقراءة. يشكو كثير من الناس من العزلة، أما أنا، فإنني أدمنت العزلة، ربيتها وعقدت صداقة حميمة معها. العزلة هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك. وطرد الضجر هو أيضاً قوة روحية عالية جداً. وأشعر أنني إذا فقدت العزلة فقدت نفسي. أنا حريص على البقاء في هذه العزلة، وهذا لا يعني أنه انقطاع عن الحياة والواقع والناس.. إنني أنظم وقتي في شكل لا يسمح لي بأن أنغمر في علاقات اجتماعية قد لا تكون كلها مفيدة.
عندما كنت خارج الوطن، كنت أعتقد أن الطريق سيؤدي إلى البيت، وأن البيت أجمل من الطريق إلى البيت. ولكن عندما عدت إلى ما يُسمى البيت، وهو ليس بيتاً حقيقياً، غيّرت هذا القول وقلت: ما زال الطريق إلى البيت أجمل من البيت لأن الحلم ما زال أكثر جمالاً وصفاء من الواقع الذي أسفر عنه هذا الحلم. الحلم يتيم الآن. لقد عدت إلى القول بأولية الطريق على البيت.
علاقتي القوية بالبيت نمت في المنفى أو في الشتات. عندما تكون في بيتك لا تمجد البيت ولا تشعر بأهميته وحميميته، ولكن عندما تحرم من البيت يتحوّل إلى صبابة وإلى مشتهى، وكأنه هو الغاية القصوى من الرحلة كلها. المنفى هو الذي عمّق مفهوم البيت والوطن، كون المنفى نقيضاً لهما. أما الآن فلا أستطيع أن أعرّف المنفى بنقيضه ولا الوطن بنقيضه، الآن اختلف الأمر وأصبح الوطن والمنفى أمرين ملتبسين".
طقوسه اليومية في الكتابة
كانت لدرويش طقوس وعادات يومية لا يرغب في أن يخترقها أحد، ولا سيما ساعات قراءته وكتابته. وكان يعيش وحيدا في شقته إذ سبق أن تزوج مرتين وانفصل بالتراضي. لم يكن ينام عند أحد، ولا يرغب في أن ينام عنده أحد غالبا إلا بعض الأصدقاء الذين يأتون إليه أحيانا من فلسطين وبشكل استثنائي. وكان ينام عادة مبكرا ولا يتجاوز الثانية عشرة ليلا ويستيقظ حوالي الثامنة، ويبدأ بحلاقة ذقنه والحمام وتناول القهوة، ثم يلبس أجمل ثيابه وحذاءه، كما لو أنه سيذهب إلى موعد رسمي، ويجلس خلف الطاولة ينتظر الإلهام بالكتابة، أو ليقتنص الوحي كما كان يعبر عن ذلك. وأحيانا يكتب صفحة أو صفحات وأحيانا لا يكتب شيئا، المهم أن هذا الطقس كان مقدسا. كانت لشقة محمود ثلاثة مفاتيح، فقد كان خائفا من الموت وحيدا دون أن يشعر به أحد قال "الستون رقم مرعب جدا، ترى ماذا سيحدث بعد ذلك؟".. قال درويش! وكان يخاف من الموت وحيدا كما حدث للشاعر معين بسيسو.
لاعب النرد وهواياته
كان درويش منشغلا بالقراءة والكتابة جلّ وقته. يتحدث العبرية والإنجليزية والفرنسية. يحب سماع الموسيقى الكلاسيكية لكبار الموسيقيين مثل بيتهوفن وتشايكوفسكي، وغالبا ما يسمع الموسيقى أثناء الكتابة، ولديه مجموعة كبيرة من الأشرطة والأقراص الموسيقية. كان يحب سماع عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، ويتابع المسلسلات التاريخية. أما تسليته فكانت في لعب النرد "طاولة الزهر" التي ينهمك في أجوائها، يصرخ أحيانا، ويغتاظ أحيانا أخرى مثل أي طفل، أما مشاهدته للتلفزيون، فقد كان مغرما بالدراما، وخاصة في رمضان.
عالم القهوة
يعترف أصدقاء درويش المقربون بأنه كان يصنع لهم القهوة بنفسه، ويتفنن في ذلك، ولا يحب أن يصنعها أو يقدمها لهم أحد غيره. كان يصر على أن يصنع القهوة بيديه، ويخدم زواره. أثناء الحرب في بيروت عاش في شقة تفصل واجهة زجاجية فيها بين غرفة النوم والمطبخ وهي معرضة للقناصة، وعندما يريد أن يذهب ليصنع فنجان قهوة كان يتردد في المغامرة بروحه من أجل المرور إلى المطبخ وصنعها، يقول كل ذلك في كتابه (ذاكرة للنسيان):
"أريد رائحة القهوة. لأتماسك، لأقف على قدميّ. كيف أذيع رائحة القهوة في خلاياي، وقذائف البحر تنقض على واجهة المطبخ المطل على البحر لنشر رائحة البارود ومذاق العدم! صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين. ثانية واحدة.. ثانية واحدة لا تكفي لأن أقف أمام البوتاغاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلة على البحر.
أريد رائحة القهوة. أريد خمس دقائق.. أريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لي من مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة، فالقهوة لمن أدمنها مثلي، هي مفتاح النهار، والقهوة، لمن يعرفها مثلي، هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت.
في وسع الغزاة أن يسلطوا البحر والجو والبر عليّ، ولكنهم لا يستطيعون أن يقتلعوا مني رائحة القهوة. سأصنع قهوتي الآن. سأشرب القهوة الآن. سأمتلئ برائحة القهوة الآن، لأعيش يوما آخر، أو أموت محاطا برائحة القهوة.
ملعقة واحدة من البن المكهرب بالهال تُرسى، ببطء، على تجاعيد الماء الساخن، تحركها تحريكا بطيئا بالملعقة، بشكل دائري في البداية، ثم من فوق إلى تحت. تضيف إليها الملعقة الثانية، تحركها من فوق إلى تحت، ثم تحركها تحريكا دائريا من الشمال إلى اليمين، ثم تسكب عليها الملعقة الثالثة. بين الملعقة والأخرى أبعد الإناء عن النار ثم أعده إلى النار. بعد ذلك "لَقِّم" القهوة، أي املأ الملعقة بالبن الذائب وارفعها إلى أعلى، ثم أعدها عدة مرات إلى أسفل، إلى أن يعيد الماء غليانه وتبقى كتلة من البن ذي اللون الأشقر على سطح الماء، تتموج وتتأهب للغرق. لا تدعها تغرق. أطفئ النار ولا تكترث بالصواريخ. خذ القهوة إلى الممر الضيق. صبها بحنان وافتنان في فنجان أبيض، فالفناجين داكنة اللون تفسد حرية القهوة. راقب خطوط البخار وخيمة الرائحة المتصاعدة. أشعل سيجارتك الآن، السيجارة الأولى المصنوعة من أجل هذا الفنجان.
ها أنذا أولد. امتلأت عروقي بمخدرها المنبه. أتساءل: كيف تكتب يدٌ لا تبدع القهوة؟ كم قال لي أطباء القلب وهم يدخنون: لا تدخن ولا تشرب القهوة. وكم مازحتهم: الحمار لا يدخن ولا يشرب القهوة ولا يكتب.
أعرف قهوتي، وقهوة أمي، وقهوة أصدقائي. أعرفها من بعيد وأعرف الفوارق بينها. لا قهوة تشبه قهوة أخرى. ودفاعي عن القهوة هو دفاع عن خصوصية الفارق. ليس هنالك مذاق اسمه مذاق القهوة. لكل شخص قهوته الخاصة، الخاصة إلى حد أقيس معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته. ثمة قهوة لها مذاق الكزبرة. ذلك يعني أن مطبخ السيدة ليس مرتبا. وثمة قهوة لها مذاق عصير الخروب. ذلك يعني أن صاحب البيت بخيل. وثمة قهوة لها رائحة العطر. ذلك يعني أن السيدة شديدة الاهتمام بظاهر الأشياء. وثمة قهوة لها ملمس الطحلب في الفم. ذلك يعني أن صاحبها يساري طفولي. وثمة قهوة لها مذاق القِدم من فرط ما تألب البن في الماء الساخن. ذلك يعني أن صاحبها يميني متطرف. وثمة قهوة لها مذاق الهال الطاغي. ذلك يعني أن السيدة محدثة النعمة.
لا قهوة تشبه قهوة أخرى. لكل بيت قهوته، ولكل يد قهوتها، لأنه لا نفس تشبه نفسا أخرى. وأنا أعرف القهوة من بعيد: تسير في خط مستقيم، في البداية، ثم تتعرج وتتلوى وتتأوّد وتتأوه وتلتف على سفوح ومنحدرات. رائحة القهوة تتحدر من سلالة المكان الأول. هي رحلة بدأت من آلاف السنين وما زالت تعود. القهوة مكان. القهوة مسام تسرب الداخل إلى الخارج، وانفصال يوحد ما لا يتوحد إلا فيها هي رائحة القهوة. هي ضد الفطام.. القهوة جغرافيا.
في السجن لم أتكيف أبدا مع غياب القهوة الصباحية. ما أشد أنانيتي! لقد حرمت زميلا في السجن من نصف فنجان من القهوة، ما دفع الأقدار إلى معاقبتي، بعد أسبوع، يوم جاءت أمي لزيارتي ومعها إبريق من القهوة، دلقه الحارس على العشب".
كان محمود طباخا ماهرا، يتقن ثلاث أكلات ويتفنن في تقديمها؛ وهي الملوخية والفاصولياء البيضاء والبامياء. وكان يسهب في وصف طريقته للطبخ، وكيف يقوم بانتقاء اللحمة ونوعها، ونوعية البهارات التي يستخدمها، وتفاصيل الملح والثوم وغيرها. أما الوجبة التي كان يعشقها، ويختارها إذا ما عزمه أحد وخيّره بنوعية الطعام فهي "المنسف" التي يعتبرها وجبة لذيذة.
الاقتراب من عالم درويش
كان محمود محبا صادقا وودودا لأصدقائه وللناس بشكل عام، وهو متواضع جدا، وخجول لا يحب اللقاءات الاجتماعية التي يزيد فيها الحضور عن ستة أشخاص. كان معتدلا في حياته، وفي طعامه وشرابه ونقاشاته، ولم يكن متطرفا برأيه، هو متسامح جدا، ولم تكن لديه عداوات مع أحد، ونادرا ما يذم أحدا من الشعراء أو غيرهم، كان كريما وغالبا ما "يعزم" أصدقاءه.
ولم يكن يستطيع الذهاب إلى الأحياء الشعبية أو التجول في الشوارع مثل عامة الناس لكثرة ما يصادف من المعجبين والإحراجات. قام بتوزيع جزء كبير من مكتبته على بعض أصدقائه، وكأنه لم يرغب في إبقاء غير مئة كتاب مثلا ليحتفظ بها وتكون في متناول يده. استقبله عدد من الملوك والرؤساء مثل ملكة هولندا، وملك المغرب، ورئيس وزراء فرنسا والرئيس التونسي وغيرهم.
لعل أكثر ما يثير الإعجاب بشخصيته سرعة البديهة، وخفة الظل، وذلك التهذيب العالي في الحديث، واللباقة في التعاطي مع الآخرين، واحتفاله بتجارب الآخرين، لا سيما الشعراء الشباب. وكان يفرح من قلبه عند اكتشافه لشاعر متميز، ولا يتوانى عن إبداء إعجابه بنص جميل بدون تحفظ،. وكان مستمعاً جيداً يتابع محدثه باهتمام وفضول، ولا يميل إلى التنظير، ولا يحب دور الأستاذ الذي يتوقعه منه البعض.. يسمع جيدا ويناقش.. يقرأ الصحافة ويقرأ الكتب التي تهدى إليه، ويعبر عن رأيه فيها.
عام 1997 شارك للمرة الأولى في مهرجان جرش وافتتح المسرح الشمالي الذي كان مغلقا لألفي عام فيه لأول مرة، حيث قرأ لمحبيه ومتابعيه أشعاره بمرافقة عازف العود سمير جبران، شارك في مهرجان جرش مرات عديدة منها أمسيته الشهيرة في قصر الثقافة، قال لجمهوره حينما صعد المنبر: سأقرأ بعضا مما تحبون، وبعضا مما أحب. وقرأ قصائد قليلة من قديمه، ثم وبلمسة ساحر أو مثل قائد أوركسترا متمرس بدأ بقراءة اختياراته هو، وهكذا سحب الجمهور إلى الشعر الخالص، إذ قرأ نصوصا عالية تقبلها الجمهور بكل سلاسة.
توقيع كتبه
نشط درويش في السنوات الأخيرة بإقامة حفل توقيع لإصداراته الجديدة في مركز خليل السكاكيني في رام الله. وفي عمان اختار مسرح البلد في قاع المدينة. كان حفل التوقيع الأول في كانون الأول (ديسمبر) 2005، جاءه حضور كبير تجاوز الـ 1200 شخص، معظمهم من الشباب، ومن طلبة الجامعات والعاملين في مختلف القطاعات، وأتى البعض من سورية، وفلسطين 48 وكانت فرصة للقاء الناس. كان درويش سعيدا يستوقف من يريد التوقيع أحيانا ويسأله عن اسمه ومن أين أتى، ويتعرف إلى البعض أو أهاليهم، أقام حفل توقيع "في حضرة الغياب" بتاريخ 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006، وحفل التوقيع الأخير كان لكتابه "أثر الفراشة" في 23 شباط (فبراير) 2008.
في بداية 2008، بدأ درويش بتوزيع نحو ألف كتاب من مكتبته الضخمة على مكتبات شعبية في جبل النظيف ومخيم البقعة، وكان يرغب في التخفيف من مكتبته التي أخذت تزاحم أثاث بيته، وليقرأها الناس.
كان له دور مميز في رئاسة اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، ساهم في عقد المؤتمر التوحيدي في الجزائر الذي أعاد اللحمة للكتاب والصحافيين بعد فترة من الانقسام. وشغل رئيس مركز الأبحاث الفلسطيني، وعضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. أسس مجلة الكرمل وكان رئيس تحريرها. صدرت الكرمل في بيروت وانتقلت الى قبرص ورام الله وكانت توزع في الدول العربية.
"لم يجامل درويش يوما ولم يتخل عن ثوابته ولم يرهب أحدا لا كبيرا ولا صغيرا. وكثيرا ما كنا نضطر إلى الذهاب إلى مكان الأمسية قبل نصف ساعة أو أكثر ليطمئن. وكان دائما قلقا قبل كل أمسية. يرتب قصائده بدقة أيها يقرأ أولا وثانيا وأخيرا. ويسأل أيهما أجمل للبداية هذه أم هذه؟ تبدأ معركة محمود مع محمود إذا جاز التعبير فتكثر خلوته إلى نفسه. يوقف السفر، ويقلل كثيرا من استقبال الأصدقاء، ويتحول إلى حرفي (حداد أو نجار ويبدأ الشغل على قصائد الدرج) من موقع الناقد يحذف ويزيد، وعلى نار هادئة وبتأن لم أر مثله، وعندما يتناول قلم الحبر السائل يبدأ بكتابة المخطوطة قصيدة بعد قصيدة ثم يأتي دور التبويب. وعندما يصدر الديوان يبدأ السؤال الكبير: هل أستطيع أن أكتب شعرا أجمل من هذا؟
يجمع أصدقاء ويعتبرهم جمهورا مصغرا له يقرأ لهم كل جديد، ويطلب رأيهم. طالبه البعض أن يشطب مقدمة "في حضرة الغياب" لكنه رفض. أدمن محمود التفوق على نفسه، فهو يريد فنا متطورا يخاطب الأغوار العميقة في النفوس، ويبقى أثرها في الوجدان، وكان دائما حريصا على أن يجمع بين هذا الفن المتطور والانتشار الجماهيري الواسع، ويصر على أن يقرأ للحشود بعضا من أصعب قصائده، ولا يستجيب للطلبات. وفي الوقت عينه كان يستمع إلى رأي أصدقائه حتى إن صديقا طلب منه شطب أكثر من عشر صفحات واستجاب له. كان محمود يرغب في الحياة لسنوات قليلة مقبلة لينجز عملا كبيرا يراوده. الموت كان حاضرا بقوة، وأصبح هما يوميا وعاديا وأصبح محمود يسابق الزمن، ويسعى كثيرا ويعمل أكثر. محمود الذي لم يكن يرغب في عمل واحد ونشاط واحد في العام قدم هذه السنة أمسيات شعرية في فرنسا وإيطاليا وكوريا وفي رام الله وحيفا وفي القاهرة وتونس وعمان، وحصد الكثير من الجوائز منها جائزة "ملك الشعر" من مقدونيا، وهي عبارة عن تاج ذهبي، وجائزة الشعر العربي من مصر، وجائزة من تونس، وتبرع بالقيمة المالية بالجائزتين الأخيرتين لصالح صندوق الطالب الفلسطيني .
ومحمود لم ينس يوما أنه فلسطيني ولاجئ، ومن هنا كانت أهمية المكان في قصائده للدفاع عن الذات والثقافة وعن الذاكرة الفلسطينية، وعن الحق والحرية، ولهذا كان يعتبر معركته مع الاحتلال والظلم والاستعباد والقهر والظلام، وأن سلاحه في هذه المعركة هو الشعر.
غادر محمود درويش عمان وهو غير متأكد من رجوعه سالما إليها، ولهذا أجرى نوعا من تبرئة الذمة المبكرة، فقد أعطى العاملة الفلبينية حسابها المالي مقدما، ونقد حارس العمارة المصري أيضا حسابه، وقال لهما إنه ربما لن يعود. كان يوم الأحد 27 تموز (يوليو) 2008 هو اليوم الذي سبق سفره الأخير إلى أميركا . سافر محمود من عمان برفقة صديقه أكرم هنية إلى أميركا صباح الاثنين 28 تموز (يوليو). أما صديقه علي حليلة فقد كان سبقه إلى هيوستن ليستقبله هناك ويرتب له أمر العملية الجراحية. لم يكتب وصية، ولم يقل الكثير في لحظاته الأخيرة.
وفاته
توفي في الولايات المتحدة الأمريكية يوم السبت 9 أغسطس 2008 بعد إجراء عملية القلب المفتوح في المركز الطبي في هيوستن، التي دخل بعدها في غيبوبة أدت إلى وفاته.
نعى رئيس السلطة الفلسطينية رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير محمود عباس شاعر فلسطين الكبير محمود درويش، وأعلن الحداد 3 أيام في كافة الأراضي الفلسطينية حزنا على وفاته، واصفا درويش "عاشق فلسطين" و"رائد المشروع الثقافي الحديث"، والقائد الوطني اللامع والمعطاء".
وري جثمانه الثرى في 13 أغسطس في مدينة رام الله حيث خصصت له هناك قطعة أرض في قصر رام الله الثقافي. وقد شارك في جنازته الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وشخصيات أخرى في مقدمتهم الرئيس محمود عباس.وتم نقل جثمان الشاعر محمود درويش إلى رام الله بعد وصوله إلى العاصمة الأردنية عمّان ، حيث كان هناك العديد من الشخصيات من العالم العربي لتوديعه.
وشارك في جنازته آلاف من الفلسطينيين رغم الحواجز التي تقطع أراضي الضفة الغربية، وتم نقل جثمانه في جنازة مهيبة إلى رام الله حيث دفن، ليقام له صرح ضخم معروف باسم "حديقة البروة" أو متحف محمود درويش.
ترك درويش آثاراً أدبية عديدة، ما زالت دور النشر تتسابق على طباعتها في مجموعات كاملة أو منفردة، وترجمت أعماله إلى 39 لغة حية، وما زالت تترجم إلى عدد من اللغات الأخرى، ومن الأعمال التي تركها دوريش:
ـ ذاكرة للنسيان، وهو نص طويل عن حصار بيروت، عابرون في كلام عابر، شعر، ورد أقل، شعر، أحد عشر كوكباً، شعر، هي أغنية، شعر، أرى ما أريد، شعر، أعراس، شعر، حصار لمدائح البحر، شعر، تلك صورتها وهذا انتحار العاشق، شعر، محاولة رقم 7، شعر، العصافير تموت في الجليل، شعر، أوراق الزيتون، شعر، حبيبتي تنهض من نومها، شعر، رسائل محمود درويش وسميح القاسم، أنا الموقع أدناه، حوار طويل مع إيفانا مارشليان، خطب الدكتاتور الموزونة، لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي، شعر، وهي آخر إصداراته، أقول لكم، آن لي أن أعود، أثر الفراشة، حيرة العائد، مقالات، يوميات الحزن العادي، نثر، في حضر الغياب، نثر، كزهر اللوز أو أبعد، شعر، لا تعتذر عما فعلت، شعر، حالة حصار، شعر، الجدارية، شعر، سرير الغريبة، شعر، لماذا تركت الحصان وحيداً، شعر.
[email protected]