شارك حشد كبير من السياسيين والمواطنين اللبنانيين الخميس في الوداع الأخير للبطريرك الماروني السابق نصرالله بطرس صفير الذي توفي فجر الأحد عن 99 عاماً، وعرف خلال حياته بأنه كان رأس حربة في مواجهة الوجود السوري في لبنان.
وأقيمت صلاة الجنازة لراحة نفس صفير عند الخامسة عصرا في الصرح البطريركي في بكركي شمال بيروت، ألقى خلالها البطريرك الحالي بشارة الراعي عظة وصف فيها صفير ب"بطريرك الاستقلال والمصالحة"، في إشارة الى مواقف صفير التي أسست للانتفاضة ضد الوجود السوري في لبنان اعتبارا من بداية سنوات الألفين.
وكان جثمان صفير مسجى منذ الأربعاء في كنيسة الصرح البطريركي قبل أن يحمله رجال دين في نعش خشبي بسيط عند الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر يتقدمهم البطريرك الحالي بشارة بطرس الراعي، ليمروا أمام المواطنين الذين تجمعوا في باحة الصرح ونثروا عليه الورد والأرز.
في باحة الصرح البطريركي، وعلى وقع التراتيل، سُجي صفير أمام المعزين من سياسيين على رأسهم رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وشخصيات سياسية وحزبية وفاعليات اجتماعية. كما حضر وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان ممثلاً الرئيس إيمانويل ماكرون ووفد فاتيكاني ودبلوماسيون وسفراء دول أجنبية وعربية، وممثلون عن أمير قطر والملكين السعودي والأردني والرئيس الفلسطيني.
عند باب الصرح البطريركي، رفع بعض المواطنين صوراً لصفير، وارتدى غالبيتهم قبعات بيضاء اللون طُبعت عليها صورة البطريرك الراحل الذي طبعت مواقفه مرحلة مهمة من تاريخ لبنان الحديث.
وألقى الراعي عظة وصف فيها صفير بـ"عميد الكنيسة المارونية". وقال "عرف كيف يبني حياته على الأساس الثابت وهو الإيمان المسيحي، الصلابة وكلام الله والتجرد والتواضع (...). كان الراعي الساهر المتفاني الذي لم يجد مجالا للراحة، أعطى من دون أن يطلب لنفسه أي شيء".
وتابع الراعي "تأتي اليوم الشهادات عن هذا البطريرك الكبير من كل فم (...) فالكل يجمع على انه خسارة وطنية، ورأوا فيه بطريرك الاستقلال الثاني، والبطريرك الذي هو من حديد وكتلة من صخر وبطريرك المصالحة الوطنية والبطريرك الذي لا يتكرر، المواطن والمقاتل من دون سلاح".
- "رجل حر شجاع" -
وخلال الجنازة، منح عون صفير الوشاح الأكبر من وسام الاستحقاق اللبناني.
وأوفد الفاتيكان رئيس مجمع الكنائس الشرقية الكاردينال ليوناردو ساندري على رأس وفد لتقديم العزاء والمشاركة في مراسم جنازة صفير. وألقى ساندري كلمة البابا فرنسيس خلال الجنازة والتي وصف فيها صفير "بالرجل الحر الشجاع".
وقال إن صفير "قام برسالته في ظروف مضطربة، وكان عنصراً مؤثراً في جمع الصفوف وإرساء السلام والمصالحة، مدافعا غيورا عن سيادة واستقلال بلده".
وبعد انتهاء الجنازة، ووري صفير الثرى في مدافن البطاركة والأساقفة في بكركي.
وانتخب صفير في نيسان/أبريل 1986 البطريرك السادس والسبعين للموارنة، أكبر طائفة مسيحية في لبنان، ثم قدّم استقالته في العام 2011 ليخلفه الكاردينال الحالي بشارة بطرس الراعي.
ولعب صفير دوراً بارزاً في تاريخ لبنان الحديث، لا سيما من خلال معارضته الشديدة للوجود والهيمنة السورية على لبنان.
ومنح صفير الغطاء المسيحي لإبرام اتفاق الطائف في السعودية عام 1989 الذي وضع حداً للحرب الأهلية (1975-1990) في لبنان، وكان آخر فصولها نزاع دام بين المسيحيين دانه البطريرك بشدة وأكد مراراً أنه أضعفهم في لبنان.
ورفض طيلة فترة توليه منصبه زيارة سوريا.
وشكّلت بكركي في عهد صفير منذ أوائل التسعينات وجهة مسؤولي وكوادر التيارات المسيحية المعارضة حينها للهيمنة السورية، بينما كانت القيادات المسيحية منفية أو مسجونة. وكانوا يشكون تعرضهم للقمع والاعتقال في ظل النفوذ السوري.
في العام 2000، وفي خضم النفوذ السوري، أطلق مجلس المطارنة الموارنة برئاسة صفير ما عرف في وقت لاحق بـ"نداء الألفين"، والذي طالب بانسحاب الجيش السوري من لبنان بعد حوالى ثلاثين سنة من تواجده. ولم يكن أحد يجرؤ في ذلك الوقت على التطرق الى هذا الموضوع.
وكان صفير يشدد في كل خطاباته على ضرورة أن يتوحد اللبنانيون حول مسألة رفض الهيمنة السورية، وساهمت اتصالاته في التقارب بين المعارضة المسيحية آنذاك ورئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري الذي كان في طور الانتقال من صديق الى خصم لدمشق.
بعد خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005 إثر اغتيال الحريري، لم يتردد صفير في انتقاد حزب الله بشدة لرفضه التخلي عن سلاحه، معتبرا أنه يشكل "حال شاذة" في لبنان، ومؤكداً أن السلاح يجب أن يكون حصراً بيد الدولة.
ولد صفير في ريفون في منطقة كسروان (وسط) في 15 أيار/مايو. سيم كاهناً في أيار/مايو 1950، ودرس اللاهوت في المدرسة الإكليريكية البطريركية المارونية، ثم تابع دروسه اللاهوتية والفلسفية في جامعة القديس يوسف في بيروت.
سيم كاهناً في أيار/مايو 1950، ومنحه البابا يوحنا بولس الثاني رتبة الكاردينالية في 1994 تقديراً لخدمته الرعوية ودوره الوطني.
ويُعرف عن صفير تواضعه وتقشّفه في نمط حياته وشغفه برياضة المشي في الطبيعة، وكان ضليعاً باللغتين العربية والفرنسية كما كان يتكلّم الإنكليزية والإيطالية.
[email protected]