كثيرة هي المشاهد المريعة التي تلتقطها كاميرات الإعلام من قطاع غزة والتي تكاد تنطق الحجارة لهولها في بعض الأحيان، وربما القادم أعظم نظرا لأن آلة الاحتلال لا تتيح للطواقم الطبية والدفاع المدني وغيرها إمكانية الوصول إلى المنازل والمدارس والمساجد وغيرها من البنايات التي سويت بالأرض فوق رأس ساكنيها.
يبدو أن من لا يتأثر ولا يأبه لهذه الصور من الدمار والقتل هم الإسرائيليون وحدهم وأنصارهم في الإدارة الأمريكية، وربما بعض من تضللهم وسائل الإعلام المنحازة لإسرائيل في الولايات المتحدة وفي أوروبا والتي لم تساوي بين الضحية والجلاد فحسب بل تجاوزت ذلك إلى تصوير الجيش الإسرائيلي بدباباته وطائراته ومدافعه وأطنان المتفجرات التي انهال بها على قطاع غزة على أنه الضحية بحجة أنه انجر إلى هذه المواجهة المبررة بحجة الدفاع عن مواطني إسرائيل ضد ما أسماه الإرهاب الفلسطيني. وتظهر آخر استطلاعات الرأي تأييدا ساحقا في أوساط الشعب الإسرائيلي لما يقوم به جيش الاحتلال في غزة إذ يرى ما يزيد عن 95% بأن العدوان مبرر مقابل 3.5% فقط يقولون إن الجيش يفرط في استخدام القوة.
ووسط هذا كله نجد وسائل الإعلام الإسرائيلية تنشغل في إعداد قوائم للمشاهير في العالم الذين يعارضون وينتقدون ما تقوم به إسرائيل مطالبين الجمهور اليهودي أن "يحاسب" هؤلاء المشاهير وذلك من خلال مقاطعتهم أو تجنب الاعجاب بهم.
من بين من انتقدوا إسرائيل في عدوانها على غزة المغني والمؤلف الموسيقي البريطاني الشهير "بريان إنو" الذي أثارت حفيظته صورة رجل فلسطيني يحمل في كيس بلاستيكي بقايا جثة ابنه البالغ من العمر 4 سنوات والذي مزقه صاروخ إسرائيلي. أول ما تبادر إلى ذهن الفنان البريطاني حين شاهد تلك الصورة كان الدعم الأمريكي المطلق وغير المشروط لإسرائيل فكتب رسالة عتاب ومناشدة مفتوحة لمحبيه وأصدقائه من الشعب الأمريكي نشرها على صفحات جريدة "الإندبندنت" البريطانية. يقول بريان إنو في رسالته:
لكم جميعا أعزائي:
"أشعر أنني بهذه الرسالة أخرق قاعدة لا يتطرق لها أحد لكنني لم أعد أستطيع التزام الصمت بعد الآن.
هذا اليوم شاهدت صورة لرجل فلسطيني يبكي وهو يحمل كيسا بلاستيكيا بداخله بعض اللحم. إنه لحم ابنه الذي مزقه صاروخ إسرائيلي (حسب تقرير المستشفى)- ومن الواضح أنهم يستخدمون قذائف الفلاشت الحديثة والتي قد تعرفون ما هي- عبارة عن مئات الأسهم المعدنية الصغيرة التي تنطلق من القذيفة فتمزق اللحم الآدمي. كان اسم الطفل محمد خلف نواصرة وكان في الرابعة من عمره.
يضيف المغني البريطاني: "وجدتني فجأة أفكر في أن الطفل الذي في الكيس كان من الممكن أنه واحدا من أبنائي، وهذه الفكرة تسببت لي بإزعاج لم يراودني مثله منذ زمن بعيد. وبعد ذلك قرأت أن الأمم المتحدة قالت إن إسرائيل قد تكون ارتكبت جرائم حرب في غزة، وأن المنظمة الأممية تنوي تشكيل لجنة تحقيق. أمريكا لن تشارك في تلك اللجنة."
ما الذي يجري في أمريكا؟ يتساءل الفنان الشهير، ثم يجيب على سؤاله قائلا إنه من تجربته الخاصة يعلم أن الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام الأمريكية محرفة وأن الجمهور الأمريكي لا يستمع إلا للقليل حول وجهة النظر الخرى (الفلسطينية). "ولكن - بحق الله! ليس من الصعوبة بمكان معرفة ما يجري بالفعل." ثم يعود ليتساءل: "لماذا تستمر أمريكا في هذا الدعم الأعمى لهذه الممارسة أحادية الجانب للتطهير العرقي؟ لماذا؟ أكره الاعتقاد بأن السبب في ذلك هو النفوذ الذي تتمتع به لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية الأيباك، لأنه إن كان هذا هو السبب فهو يعني أن الفساد مستشر في حكومتكم. لا اعتقد أن هذا هو السبب ولكنني لا فكرة لدي عن السبب الحقيقي."
ويضيف: "الأمريكيون الذين اعرفهم والذين أحبهم رحيمون ويتمتعون بسعة أفق، ومبدعون، وانتقائيون، ومتسامحون، وكرماء. أنتم يا أصدقائي الأمريكيين المقربين تمثلون هذه القيم في نظري، فمن الذي يمثل أمريكا التي تساند هذه الحرب الاستعمارية من طرف واحد؟ لا أستطيع أن أفهم، خاصة وأنا أعلم أن هناك آخرون أمثالكم فلماذا وكيف لا تسمع أصواتهم؟ لماذا حين تسمع كلمة "أمريكا" لا يتبادر إلى معظم الناس في العالم صورتكم وصورة الطيبين من أمثالكم؟ كيف تبدو صورة الدولة التي تعرف نفسها على أنها دولة الديمقراطية والحرية أكثر من أي دولة أخرى، لكنها تنفق أموالها في خلاف ما تدعيه لتدعم نظرية لاهوتية قوامها التمييز العنصري الفظيع."
يمضي المغني الشهير بعد ذلك إلى الحديث عما شاهده عندما زار إسرائيل والمناطق الفلسطينية في العام الماضي مع صديقة لها شقيقة تعمل في الأونروا في القدس. "شاهدنا منازل الفلسطينيين وقد أحاطوها بأسلاك شائكة وألواح لحمايتها من القاذورات وبقايا ورق الحمامات التي يلقي بها المستوطنون على السكان الفلسطينيين. كما شاهدنا أطفالا فلسطينيين يتعرضون للضرب بمضارب البيسبول اثناء توجههم إلى مدارسهم على يد الأولاد الإسرائيليين وسط تصفيق وضحكات آبائهم. شاهدنا أيضا أن قرية فلسطينية بأكملها طردت من أرضها لتعيش في الكهوف بينما احتلت الأراضي ثلاث عائلات يهودية. كما شاهدنا بأم أعيننا مستوطنة إسرائيلية على تلة تطلق مياهها العادمة نحو حقول الفلسطينيين في الأسفل. وشاهدنا الحواجز العسكرية وقائمة لا حصر لها من أشكال الإذلال التي تمارس يويما ضد الفلسطينيين." وبعد أن يسرد كل هذه التجاوزات الإسرائيلية يتساءل: "هل يقبل الأمريكيون بهذا؟ هل يعتقدون فعلا أن هذه الأفعال لا بأس بها؟ أم أنهم بكل بساطة لا يعلمون بوجود مثل هذه الممارسات؟"
ثم يتحول الفنان البريطاني بعد ذلك إلى محلل سياسي فيعطي تفسيره الخاص لعملية السلام المتعثرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. يقول إن إسرائيل "تريد العملية لكنها لا تريد السلام." فبينما تتواصل تلك العملية يستمر المستوطنون في الاستيلاء على مزيد من أراضي الفلسطينيين وبناء مزيد من المستوطنات...وحين يضيق الفلسطينيون ذرعا ويحتجون مستخدمين الألعاب النارية التي تدل على حالة الضعف يتم ضربهم وتمزيق أجسادهم بأحدث الأسلحة بما فيها قذائف اليورانيوم المخصب وهذا ببساطة لأن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها" أما الفلسطينيين فلا. أما ميليشيات المستوطنين، يضيف إنو فمستعدة دائما لضرب الفلسطينيين أو اقتلاع أشجار الزيتون من حقولهم على مرأى من الجيش الذي يغض الطرف. "وبالمناسبة معظم أفراد هذه المليشيات ليسوا من العرق الاسرائيلي بل من اصحاب ما يسمى بحق العودة من روسيا وأكرانيا ومورافيا وجنوب أفريقيا وبروكلين، والذين قدموا إلى إسرائيل مؤخرا وهم على قناعة بأنهم يملكون حقا ربانيا في أرض فلسطين لا يقبل النقض، وبأن العرب هم من الهوام أو الكائنات الضارة. تلك هي الثقافة التي تذهب أموال الضرائب التي ندفعها للدفاع عنها، وكأننا نرسل أموالنا إلى منظمة الكوكلوكس كلان."
[email protected]