لقطار يشقّ طريقه في الطبيعة الرائعة لسويسرا نحو مدينة خور Chur هذه المدينة التي ستحملني إلى عالم هايدي، الفتاة الصغيرة التي كانت تعيش مع جدّها في جبال الألب، هل ستكون قريتها كما كنت أتخيلها حين كنت طفلة؟ وحدها القرية الواقعية ستجيبني عن أسئلتي.
أخيرًا وصلنا إلى مدينة خور Chur بعد نحو أكثر من ساعتين. عند محطة الإنتظار استقبلنا فرنسيزكا وكريست من هيئة السياحة في خور، توجهنا إلى فندق خور الذي يبعد عن محطة القطار عشر دقائق سيرًا على القدمين.
يقع الفندق على ضفة نهر الراين وفي قلب وسط المدينة التجاري. وضعنا أمتعتنا وتوجهنا برفقة فرنسيزكا و بينو، وهو مرشد سياحي في عقده السابع، نحو وسط المدينة لنقوم بجولة تذوّق المطبخ السويسري ضمن برنامج «عيش التقاليد».
على عكس أبينزل تضج المدينة بالحركة، ولكنها حركة هادئة. حتى السيارات تجول بصمت. ما يعجبني في نظام السير السويسري أن السيارة تتوقف عندما يكون المشاة واقفين على الرصيف المواجه للخطوط الصفر التي غالبًا لا يكون عليها إشارات ضوئية.
دخلنا الوسط التجاري عبر بوابة تعود إلى العصور الوسطى، هنا الأبنية مزجت بين النمط عصور الوسطى وعصر النهضة والمعاصر، تقف عند أقدامها البوتيكات ومقاهي الرصيف، وقد رصفت أزقتها وشوارعها الضيّقة بالحجارة.
السوشي السويسري تجربة لا بد منها
بدأت رحلتنا مع الأطباق السويسرية، البداية كانت في الملحمة حيث تذوقنا اللحوم المجففّة، ثم صعدنا إلى مطعم يقدّمون فيه سوشي على الطريقة السويسرية الخاصة بمدن الألب، تذوقنا السوشي السويسري، بالطبع ليس كالياباني، فقوامه الجبن والرز ولحم بقر، أما الصلصة فهي خليط من الكريما والقليل من الوسابي لذا فطعمه ليس حرّيفًا على الإطلاق.
تجوّلنا في الوسط الذي أعيد بناؤه بعدما تعرضت المدينة بكاملها لحريق كما روى لنا مرشدنا بوني.
مشهد الأبنية والأصص التي تتدلى منها الزهور يتكرر، إلى درجة شككت في أن تكون الزهور طبيعية، واقتربت من أحد شبابيك منزل في الطبقة الأرضية ولمست الزهر فتأكدت أنها طبيعية.
تتميز ساحات الوسط التجاري بوجود ينابيع تتحلّق حولها مقاهي الرصيف والبوتيكات التي تنوّعت في دور الأزياء التي تحمل اسمها.
ولعل ساحة بوستبلاتز الأكثر ازدحامًا. فمنها تتفرع شوارع عدة، منها شارع باهنهوفBahnofstrasse الذي يشكّل فردوسًا للتسوق في خور، وشارع Grabenstrasse، الذي يقود حركة المرور نحو مشارف ضواحي المدينة العتيقة وهو يشهد أيضًا ازدحام المشاة، وقد شيّد هذا الشارع في القرن التاسع عشر.
من المدينة العتيقة إلى قمة برامبرويش Brambruesch
خرجنا من الوسط التجاري متوجّهين نحو محطة المقطورات الهوائية لنصعد إلى قمّة برامبروش التي يصل إرتفاعها إلى 2200 متر، المشهد الخلاب لخور بعدما بدأت الشمس بطرد السحب الخريفية، والمقطورة بدورها كانت تتأرجح بهدوء فوق الأحراج الخضراء، إلى أن وصلنا أعلى القمة.
هنا تشعر بذروة نقاء الهواء، وتصدح في الأجواء موسيقى هادئة كان صداها يزداد تدريجًا إلى أن وصلنا إلى فسحة حيث كان ثلاثة عازفين بينهم امرأة ينفخون ببوق الألبهورن Alphorn أنغامًا إيقاعها متماهية مع نسائم الألب.
بعدما أنهى العازفون عزفهم دعونا إلى المقهى الجبلي لتناول الغداء. حمسني عزفهم لتجربة العزف على الألبهورن، وكانت الخيبة فقد ظننت أن مجرد النفخ في البوق يمكن إصدار النغم ولكن لا! الأمر أكثر صعوبة مما تصورت، فللنفخ فيه تقنية خاصة، حاولنا جميعًا تعلّمها، مرة نصيب وأخرى نخيب، ولكن العازف الأكبر سنًا بلحيته البيضاء الطريفة أكّد لنا أننا لسنا في حاجة إلى وقت طويل كي نصبح متمكنين في العزف. أظن أنه أراد أن يشجعنا فقط.
انتهى يومي الأول في خور بعشاء قوامه الجبن، مما دفعني إلى القيام بتطبيق المثل» تعشى وتمشى» وبالفعل اقترحت على كلارا فلم تمانع وقد رافقنا كريست في هذه الجولة وعرّفنا إلى المدينة ليلاً، كما نهارها ليلها هادئ وآمن.
اليوم الثاني في خور ولقاء حلم الطفولة
كنت أظن أنني الوحيدة التي تراودها الأسئلة حول ما إذا كانت الصور الإفتراضية التي تخيلتها وأنا صغيرة» لهايدي» ستبقى مجرّد افتراض إلا أن جميع أفراد المجموعة وقد كان عددنا 11 اخترنا زيارة قرية هايدي من ضمن نشاطات Living Tradition كان لديهم هذا الإنطباع.
كل واحد منا قد تعرّف إليها بلغته. فقد ترجمت الرواية إلى لغات عدة وعُرضت على الشاشة الفضية والتلفزيون بأكثر من فيلم ومسلسل ورسوم متحركة.
فكارولين وسارة السيدتان اللتان تجاوزتا الخمسين كانتا تعبّران عن شوقهما لزيارة قرية هايدي التي عرفاها عبر فيلم «هايدي» الذي جسدت فيه شيرلي تمبل دور هايدي عام 1937، وكانتا تدندنان أغنية الفيلم بين الحين والآخر.
ماينفلد البلدة التي تحضن ترف الريف السويسري ببيوته وحقوله
ركبنا القطار نحو ماينفلد Maienfeld نحو عالم هايدي. عند محطة الإنتظار استقبلتنا تابيثا وروزا بحفاوة، وسألتانا ما إذا كنا نرغب في ركوب السيارة أم السير على الأقدام نحو قرية هايدي. جميعنا فضل السير.
أحيانًا أجد نفسي عاجزة عن وصف روعة هذه البلدة، فبيوتها القرميدية المتجاورة أحياناً والمتباعدة أخرى وشوارعها الضيقة المترفة بالأخضر على جنباتها، جعلتني أظن أنني وسط استوديو منمّق، أو أنني رميت وسط عالم افتراضي، ولكن لا، هكذا هي البلدات السويسرية تتمتع بكل مقاييس الجمال الطبيعي والعمراني.
أسير والدهشة والبحث رفيقاي، أبحث عن إشارة تدلني على طريق قرية هايدي، ها هي لوحات العناوين ترشدني وباقي المجموعة إلى القرية. كروم العنب المنبسطة على مد النظر ذكرتني بأغنية فيروز «أعطني الناي وغنِّ» التي كتبها جبران خليل جبران فوجدتني أردد «هل جلست العصر مثلى بين جفنات العنب والعناقيد تدلت كثريات الذهب».
أخيرًا وصلنا إلى قرية هايدي، حيث يقع المنزل الذي عاشت فيه مع جدّها. عند مدخل القرية فسحة خضراء ومقاعد يجلس عليها الزائرون للإستراحة أو ربما لتناول وجباتهم الخفيفة التي يحملونها. كان المكان فيه الكثير من العائلات مع أطفالهن، يجولون في عالم هايدي.
في قرية هايدي الإفتراضية حكاية آماليا الواقعية
تحتوي القرية على متحف هايدي الذي يعرض التذكارات والصور والأفلام والكتب التي نشرت عن هايدي إلى تفاصيل حياة كاتبة الرواية جوانا سبايري. وفي الحكاية أن جوانا أتت من زوريخ للإصطياف في ماينفلد وتعرّفت إلى آماليا طفلة كانت تعيش مع جدّها، وعندما اضطرت جوانا للعودة إلى زوريخ قامت بتأليف رواية هايدي التي تشبه إلى حد كبير حياة آماليا، إضافة إلى إسقاطات رمزية لحياة الكاتبة التي رغبت أن تبقى في هذه القرية.
بعد زيارة متحف هايدي توجهت بحماسة للقاء بيت هايدي، كل شي كما تخيلته. تقمصت شخصية هايدي صعدت غرفتها في الطبقة العلوية عبر السلم الصغير، وجلست على طاولتها حيث اعتادت أن تجلس وصديقها بيتر، وتلمست أشياءها، وجلست على كرسي صديقتها كلارا. كانت سعادتي لا توصف. فمن الجميل أن تلتقي أحلام طفولتك على أرض الواقع.
من البيت الصيفي في أعلى القمة إلى التجوال في كروم العنب
بعد زيارة بيت هايدي الشتوي ركبنا السيارة نحو بيت هايدي الصيفي، على طول الطريق كان هناك أناس يمارسون هواية المشي في ربوع جبال الألب متوجهين نحو القمة حيث يقع منزل جد هايدي الصيفي.
وصلنا القمة وقد تحوّل المنزل إلى مطعم يقدّم ما لذّ وطاب من مطبخ جبال الألب السويسرية، فكانت الشوربة الدافئة برفقة طبق الجبن سيد الأطباق.
بعد الغداء نزلنا بالسيارة إلى البلدة، وتوقفنا عند مدخل أحد كروم العنب وأكملنا المسير عبره نحو محطة القطار سيرًا على الأقدام.
بالفعل مغامرة لا يمكن تفويتها، واللافت في البلدة عندما يلتقيك أحد سكانها أنه يلقي التحية والطريف أنها بالألمانية، فتحار بماذا تجيب، ولكني وجدت الحل بأن ابتسم وأومئ برأسي.
وداع خور بالتسوّق
عند الصباح ودّعت خور على طريقتي، فقد أطلقت العنان للتسوّق، وقد رافقتني في مهمتي كلارا التي كان موعد عودتها إلى براغ مساءً.
صلنا وجلنا في السوق، كل شيء يغري خصوصًا عندما يكون هناك حسم لا يمكن تفويته. تعرفنا إلى الوسط التجاري أكثر خلال الساعات الأربع التي أمضيناها فيه، وكثيرًا ما كنا نجد أنفسنا ندور في حلقة مفرغة إلى درجة صرنا نقول لأنفسا ربما سيظن رواد المقاهي أو أصحاب البوتيكات أننا نتجسس، ولكن تكرارنا الطريق سببه خوفنا أن نضيع وسط هذا الفردوس التاريخي المتماهي مع العصر.
عند الثانية توجهت وكلارا وبالطبع معنا تذاكر «سويس باس» إلى محطة القطار متوجهين إلى مطار زوريخ الذي استغرقت المسافة إليه ساعتين مع توقف عند محطتين والثالثة كانت في قلب المطار.
خلال ساعتين كان القطار ينساب بين جبال سويسرا وبلداتها ومدنها وعلى ضفاف أنهرها وعلى طول ضفة بحيرة جنيف، ودّعت خريف سويسرا هذه البلاد التي طالما وجدتها تدهشني في كل مرّة أزورها، بكل تفاصيلها. ولكنه الوقت الذي يسير بدقّة الساعة السويسرية، تبهرك وتنسى أن عقاربها تدور لتفاجئك بأن الجمال قد حان وداعه.
خور
تعتبر خور عاصمة الكانتون السويسري غروبروندن، تقع شمال الكانتون على ضفة نهر الراين اليمنى. وتعرف بأنها أقدم مدن سويسرا.
وخور هي موطن مبان ومواقع تاريخية دخلت ضمن تراث سويسرا الوطني، وفيها موقعان مهمان: المدينة العتيقة التي تعود إلى القرون الوسطى، و فيلشدورفيل المعلم الذي يعود إلى ما قبل التاريخ، ومعلم روماني.
اللغة: الألمانية والإنكليزية
أهم المعالم التاريخية:
بيشوب بالاس ويضم مكتبة وأرشيف
متحف الفن Bündner Kunstmuseum
متحف التاريخ الطبيعي Bündner Naturmuseum
the Dommuseum and the Rätisches Museum
[email protected]