بعدما أطلق عبد الناصر في منتصف القرن الماضي مقولته الشهيرة "ارفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الاستعباد"، دخل العرب في عصر جديد اتسم بالكرامة والعزة ورفعوا رؤوسهم عاليا، افتخارا بقائد جاء وخلصهم من عهود العبودية والذل والخنوع للاقطاعيين ومن خلفهم الاستعماريين، وارتفع اسم العرب عاليا في أنحاء المعمورة وكان العربي يفخر بانتمائه أينما توجه وحل، خاصة أنه كان يستقبل باحترام والمضيف يقرن العربي بناصر، الذي رمز للتحرر والاستقلال والكرامة.
لكن عهد الاستعباد عاد، عندما بدأ العرب بالتنازل عن درب العزة والكرامة ودخلوا في درب الذل والتبعية مجددا، وتوج هذا العهد مطلع الأسبوع الحالي حين شاهدنا زعماء معظم الدول العربية والاسلامية يحجون الى الرياض، مطأطئي الرؤوس، خنوعين، مذلولين ليستقبلوا الرئيس الأمريكي ترامب بناء على أوامره، بعدما أشبعهم إهانات وعبارات إذلال وتهكم، وليقدموا له الولاء والخضوع وكأنهم يستقبلون فاتحا جديدا ومنقذا عظيما جاء يخلصهم من خيباتهم المتواصلة والمتلاحقة، وفي الواقع كانوا أشبه بالنعاج التي تقف أو تتحرك لدى اشارة من راعيها. وقامت الرياض باعداد استقبال قلّ مثيله لترامب وصفه أحد الصحافيين الاسرائيليين بأنه " يذكر بطقوس استوحيت من أساطير ألف ليلة وليلة"، كي يحظى الملك سليمان من سيده ترامب بتتويجه زعيما على العالم العربي، وكأنه بقي شيء يسمى العالم العربي، بعدما عملت السعودية وأشقائها على تدمير هذا العالم وتخريبه وتفتيته وقد نجحت بذلك بفضل أموالها وغبائها وتسليم أمورها للولايات المتحدة. ويذكرنا مشهد الزعماء العرب يصطفون كالمعروضات في دكان للأنتيكا يديره ترامب، بما قاله الشاعر العربي نزار قباني " رأيتُ العروبةَ معروضةً في مزادِ الأثاث القديمْ... |
ولكنني...ما رأيتُ العَرَبْ!!." قبل أن يحضر ترامب الى المنطقة أعلن بوقاحته الصريحة أن دول الخليج بدون أمريكا ما كان لها وجود، وأن عليها أن تدفع الثمن وأن تسد الديون، ولم ينبس أحد من ملوك وأمراء الخليج ببنت شفة، بل حضروا الى الرياض وطأطأوا رؤوسهم قائلين: أمرك سيدنا! عشية مجيئه الى الرياض عرف ترامب من أين تؤكل كتف السعودية، التي جلّ ما يشغلها أن تتحول الى زعيمة للعرب والمسلمين بدعم سيد العالم الجديد، وأن تبيد عدوها الأول واللدود ايران (يؤسفني ان ظن أحدهم اسرائيل!)، ولما منحها ترامب تلك الامتيازات سكتت عن ضم حماس الى قائمة المنظمات الارهابية وتنكرت لها، سكتت عن الاهانات التي وجهها ترامب للعرب والمسلمين، وحولت مبلغا بقيمة 110 مليارات لقاء أسلحة تواجه بها ايران، يضاف اليه 270 مليار دولار لاتفاقات مختلفة.. فهل هناك من يمكنه اجراء حساب كم تبلغ تكلفة بناء اليمن وانقاذ أطفاله وأهله من الأمراض وويلات الحرب والعدوان، أو كم تحتاج السعودية الى تحويل بلادها الى دولة صناعية وتطور علمي يرقى بشعبها.. وما على المتنبي، شاعر العرب الأول، سوى أن يتململ في قبره وهو يردد " يا أمة ضحكت من جهلها الأمم". لا، لم نعد في عهد عبد الناصر ليقول للسفير الأمريكي الذي جاءه متوعدا مهددا، عد الى بلادك لأن من يرفع صوته علينا نقطع لسانه! ولم يعد هناك عبد الناصر القائد القومي العربي الذي يتصدى لمؤامرات الغرب الاستعماري ويقف في وجه أكبر دولة في العالم ويكشف مؤامراتها على الوطن العربي ويفضح حكام السعودية وتورطها في تلك المؤامرات، وهذا ما عاد وكشف عنه الشريط المصور لمقطع من خطاب لعبد الناصر، الذي انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي ودلّ على أن السعودية ما زالت تلعب ذات الدور المنوط بها " ان أمريكا حاولت أن تستخدم السعودية ضد القوى الثورية عام 1957 وذلك باعتراف الرئيس الأمريكي أيزنهاور في مذكراته التي كتبها بعد ولايته"، فالتاريخ يعيد نفسه اليوم على شكل مهزلة. ولم نعد في عهد كان يقف فيه الشعب العربي من المحيط الهادر الى الخليج الثائر خلف قائده عبد الناصر ويهب هبة رجل واحد تلبية لنداءاته، كما جرى أثناء العدوان الثلاثي وعدوان الخامس من حزيران وكل المعارك التي خاضها عبد الناصر في وجه الاستعمار وأعوانه. من المؤسف أن مقولة عبد الناصر المشهورة تحولت الى عكسها وباتت " طأطىء رأسك يا أخي.. فقد عاد عهد الاستعباد"، هذا هو حال العرب اليوم في فترة الظلام والتخلف والانقسام والتخلي عن النهج القومي. (شفاعمرو- الجليل)
|
[email protected]