عضو مجمع اللّغة العربيّة بروفسور إليانور صايغ-حدّاد، ورئيسة قسم اللّسانيَّات والأدب الإنجليزي في جامعة بارإيلان ومديرة مختبر اللّغة والقراءة في القسم، تقول: هناك تزايد ملحوظ في عدد الطلاب المنتسبون للقسم، يدرسون موضوع اللّسانيَّات بشكل خاص وهذا تطوُّر هام في ضوء العدد القليل من المتخصّصين العرب في هذا المجال، وفي ضوء أهمية هذا التَّخصُّص في إثراء الدّراسة المعاصرة للغة على جميع أشكالها: اكتساب، صعوبات، تعليم، تقييم، وغيرها".
كما تُبيّنبروفسور إليانور صايغ-حدّاد، في حديثنا معها: أنّ هناك تزايدًا في إقبال الطّلاب العرب على موضوع اللّسانيّات لأنّ هذا التّخصّص هو الوحيد الذي يمكّن الطّالب من الدّراسة العلميّة المعاصرة للغة ودراسة التّقاطع بين اللّغة من جهة، وعلم النّفس، الاجتماع، الدّماغ، والعلوم التّربويّة من جهة أخرى. كذلك فإنّ هذا التّخصّص يمكّن الطّالب من دراسة هذه الأسئلة باللّغة العربيّة، حيث هناك نقص في الدّراسات العلميّة للغة العربيّة وخاصة تلك التي تتعلّق بعلم اللّسانيّات النّفس-لغويّة والذي يبحث أساسًا في اكتساب الّلغة العربيّة وتطوّرها وعسرها لدى الأطفال خاصًّة.
لتسليط الضوء على هذا الموضوع بشكل يُعطي القرّاء صورة أشمل، سجَّلنا مع صاحبته، البروفسور إليانور صايغ-حدّاد الحوار التّالي:
*بروفسور إليانور صايغ-حدّاد: هل من إضافة حول ما تقدّم، بخصوص موضوع اللّسانيّات؟
*موضوع اللّسانيّات هو بشكل عام "علم اللّغة" او "الدّراسة العلميّة للغة" وهو علم يقوم على البحث الأمبيري (الاجرائي) أي جمع المعلومات من خلال البحث الميداني، ويهدف الى فهم "اللّغة الإنسانيّة" أي اللغة بشكل عام من خلال دراستها في اللّغات المختلفة لأنّه يفترض أن اللّغات تتشابه في مبناها ووظائفها الأساسيّة وأن هناك مبادئ وقوانين مجردة تحكم كل اللّغات الإنسانيّة (بما في ذلك لغات الإشارة التي تتطور طبيعيا بين مستعمليها من الصم والبكم) رغم الاختلافات الشّاسعة بينها.
*وما هو تخصّصكِ في هذا العلم الشائك؟
تخصُّصي بشكل عام ينتمي إلى علم اللّسانيّات النّفسيّ Psycholinguistics، أمّأ مجال أبحاثي فينقسم إلى قسمين: الأول يتناول اكتساب اللّغة وعسرها باللّغة الأمّ، وهنا يتركّز البحث في اكتساب اللّغة العربيّة لدى الأطفال، وكذلك تأثير مبنى اللّغة العربيّة (صوتيا وصرفيا ونحويا ودلاليا) ومنظومة الكتابة الأبجديّة على تطوّر اللّغة والقراءة لدى الاطفال. ومن الأسئلة التي أركّز عليها هنا بشكل خاص هو تأثير الازدواجية باللّغة العربيّة على تطوّر اللّغة والقراءة والعلاقة بين قدرات لغويّة وميتالغويّة-ذهنية باللّهجة المحكيّة وتطوّر القراءة باللّغة المعياريّة الفصحى. أمّا مجال بحثي الثاني فيتناول اللّغة والقراءة باللّغة الانجليزيّة كلغة أجنبيّة والعلاقة بين القدرات اللّغويّة باللّغة الأمّ وباللّغة الإنجليزيّة.
هل تقومين بإرشاد طلاب عرب في هذه المجالات البحثيّة؟
بالطّبع. فيوجد اليوم تحت إرشادي ما يقارب 20 طالب للّقب الثاني والثالث وقد تخرّج حتى الآن من مختبر اللّغة والقراءة الذي أديره في قسم اللّسانيّات والأدب الإنجليزيّ في جامعة بار-إيلان عدد كبير من الطّلاب العرب للألقاب الثانية والثالثة، وبعضهم أصبحوا محاضرين ويجرون الأبحاث مع طلابهم في الكليّات المختلفة.
*لو طلبتُ منكِ أن تحدّثينا عن مختبر اللّغة والقراءة في الجّامعة، ماذا تقولين؟
*مختبر اللّغة والقراءة الذي أقمته وأديره يتضمن عدد كبير من الطّلاب العرب واليهود للّقب الثاني والثالث والذين يعملون تحت إرشادي، يدرسون جهات مختلفة في تطوّر اللّغة والقراءة باللّغة الأمّ وبالّلغة الأجنبيّة/الثانية لدى الأطفال والبالغين. فهم يدرسون مثلا العسر اللّغويّ باللّغة العربيّة الأم فيطوّرون فحوص خاصّة لدراسة القدرات اللّغويّة في المجالات المختلفة ويقارنون بين القدرات اللّغويّة لدى الأطفال في مختلف المجالات (المعرفة الصوتية والصرفيّة والنّحويّة والخ) لدى الأطفال عسيري اللّغة وأقرانهم ذوي تطوّر لغويّ طبيعيّ ومن خلال هذه المقارنة يحاولون فهم التّطّور اللّغويّ الطبيعيّ وعوارض العسر اللّغويّ بالعربيّة، مما يساهم في تطوير الفحوص المناسبة لرصد الأطفال الذين يعانون منه في مراحل مبكرة.
*ما هو في رأيكِ عسر اللّغة؟
*العسر اللغويّهو عسر تطوّريّ تكون عوارضه تأخر غير متلائم مع الجيل في تطوير القدرات اللّغوية المختلفة: مبانٍ صوتيّة، صرفيّة، نحويّة؛ ومفردات؛ وفهم دون أي مشاكل حسيّة أو فيزيائيّة أو دماغيّة مرئيّة أخرى وبالرَّغم من مستويات ذكاء طبيعيّة. ينتشر العسر بين 3.5-7% بين الأطفال وتبدأ مظاهره مبكرًا، أي قبل دخول المدرسة في رياض الأطفال. أساسه ذهني/دماغي إلّا أّنّ مظاهره ممكن أن تأخذ أشكال مختلفة في لغات مختلفة بحسب مبنى اللّغة ومن هنا الحاجة إلى فحصه في اللغات المختلفة.
*أرى أن موضوع "عسر القراءة" يحتاج إلى أن نتوقَّف عنده أكثر، أليس كذلك؟
*نعم: عسر القراءة هو أيضًا عسر تطوّريّ له أساس ذهني/دماغي ويتزامن مع قدرات ذكاء طبيعيّة وينتشر حسب الأبحاث أيضًا بنسبة شبيهة (مع أنّنا لا نجد بين الباحثين اجماع حوله، بل نراهم يتحدّثون عن نسبة أعلى تتلاءم مع الفحوص المستعملة ومع الخلفيّة الاجتماعية للأطفال). أمّا مظاهر هذا العسر القرائي (وعلى عكس العسر اللّغويّ) فلا تُرى في التطّور اللغويّ العام، وهنا تكمن صعوبة رصدها قبل مرحلة المدرسة، حيث تكون الصّعوبات محصورة بشكل أساسي في القدرة على قراءة الكلمات نابعة من صعوبات في المعالجة الصوتية (وعي صوتي، تحويل الحروف لأصوات، تركيب صوتي) ومن هنا يسبّب ذلك عدم القدرة على فهم النصّ المكتوب.
*كيف تأثّر الازدواجية باللّغة العربيّة في تطّور اللّغة والقراءة؟
*هذا سؤال مركّب ويحتاج إلى العشرات بل المئات من الأبحاث لكي نبدأ بفهمه، فالازدواجية هي واقع لغوي-اتصالي-اجتماعي مركّب وأهم ما يميّزه في هذا السّياق هو البعد اللغويّ بين المحكيّة والمعياريّة وهذا البعد أيضًا هو مركّب جدا ومتعدّد الجّوانب ويتفاوت من مجال لغويّ إلى آخر، ولهذا فقد أثبتنا في أبحاثنا أن بعض جوانب الازدواجيّة ممكن أن يكون لها تأثير إيجابي خاصة في مجال القدرات الميتا-لغويّة الذهنيّة وهي قدرات مهمّة في تطّور القراءة، أما بعضها الآخر فيمكن أن تكون له تأثيرات سلبيّة. وفي السّنة القادمة في شهر اذار 2018 سوف أعقد مؤتمر عالميّ للبحث في تطور اللّغة والقراءة في أوضاع الازدواجية (Diglossic) كالعربيّة مقارنة مع الأوضاع الثنائيّة اللّغة (Bilingual) من أجل فهم الجّوانب الخاّصة بالازدواجيّة.
*هل يتجاوب الطّفل مع ذلك؟
*يجب أن نعترف أنّ لغة القراءة بالعربيّة تختلف بشكل كبير عن اللّغة التي يطوّرها الطّفل أولًا، أي اللّهجة المحكيّة. ففي واحد من الأبحاث نُظْهِر أن 20% فقط من الكلمات التي يستعملها الطّفل في سن 5 سنوات هي كلمات معياريّة أي تستعمل في القراءة والكتابة بينما 40% منها هي كلمات متقابلة (أي مستعملة في المعياريّة لكن بشكل مختلف قليلا) و 40% كلمات محكيّة لا تُستعمل باللّغة المعياريّة أبدًا. هذه فجوة كبيرة في المفردات اللّغويّة شأنها أن تعرقل عمليّة اكتساب القدرات المختلفة بالمعياريّة. لكن وبالرّغم من ذلك فأبحاثنا الأخيرة تُدلّ على علاقة متينة بين قدرات الطّفل اللّغويّة باللّهجة المحكيّة وتطوّر القدرة على القراءة بالمعياريّة. أي أن الطّفل الذي يطوّر قدرات لغويّة ولغويّة-ذهنيّة جيّدة بالمحكيّة عادة يستطيع أن يطوّر تلك القدرات بالمعياريّة، أما الطّفل الذي يواجه صعوبات في المعالجة الّلغويّة بالمحكيّة فهو من يكون أيضًا عرضة لمواجهه صعوبات مماثلة بالمعياريّة.
*وما هي أهمية القراءة للطّفل باللّغة الفصحى؟
*أولًا، يجب أن نتذكر أنّه من المهم جدًا أن يطوّر الطّفل القدرة على القراءة بلغته الأمّ، هذا يساعده في تطوير القراءة بأيّ لغة أجنبيّة-ثانية أخرى. وهذا ليس اكتشافًا جديدًا، فقد فهم الباحثون ذلك منذ سنوات السّبعين، ولكن هناك حاجة إلى تطوير قدرات لغويّة اتّصاليّة، أي فهم وتعبير شفويًا وكتابيًا، وكذلك تطوير مخزون المفاهيم لدى الفرد، فالمفهوم هو أساس التّفكير، وليس التّركيز في تطوير اللّغة على القوالب البنيويّة غير الوظيفيّة. هذه القدرات الوظيفيّة واللّغويّة-الذهنيّة تنتقل من اللغة الأمّ للّغة الثّانية والثّالثة والرّابعة، وهذا بعض ما اثبتناه في أبحاثنا حول العلاقة بين القدرات اللّغويّة باللّغة العربيّة بوصفها لغة أمّ والانجليزيّة والعبريّة كلغات ثانية وثالثة.
*وما دور قراءة القصص في الطّفولة المبكّرة في هذا المجال؟
*أثبتت الأبحاث أن التفاعل اللّغويّ الغنيّ مع الطّفل له دور مهم في التطوّر اللّغويّ للطّفل، وكذلك أظهرت الأبحاث أن التفاعل اللّغويّ بين الطّفل والأمّ/الأب حول القصّة بشكل خاص هو تفاعل مثري ويضاهي كمًا وكيفًا أي فعاليّة أخرى يقوم بها الطّفل مع والديه. وفي بحث لنا هنا في البلاد مع (109) عائلات عربيّة، قمنا فيها بفحص التّفاعل اللّغويّ حول القصّة بين الطّفل والأمّ ووجدنا للأسف مستويات متدنيّة-متوسّطة من جودة التّفاعل اللّغويّ حول القصّة، فقد سيطر على التّفاعل اللّغويّ التّفسير المبسّط من المعياريّة إلى المحكيّة دون الخوض مع الطّفل في المفاهيم الجّديدة وفي تحليل الأحداث ونقاشها، وهو ما يُعتبر مستوى عالٍ من التّفاعل. كذلك وجدنا علاقة قويّة بين البيئة القرائيّة في البيت (مثل عدد الكتب في البيت) وقدرات الطفل القرائيّة (براعم القراءة) من جهة أخرى, فقد فسّرت البيئة القرائيّة 20% من الاختلافات بين الأطفال في القدرات القرائيّة بعد الأخذ بالحسبان الوضع الاقتصادي-اجتماعي والذي فسّر 19% إضافيّة. كل هذا يدعم أهمية البيئة القرائيّة والقراءة للأطفال في تطوّر براعم القراءة.
*هل من كلمة أخيرة؟
*اللغة والقراءة هي قدرات تطوريّة مركّبة جدا يجب عدم التّساهل بها. إنّ الطّفل الذي يتطوّر بشكل طبيعيّ يُطوّر القدرات اللّغويّة الأساسيّة بصورة سهلة نسبيًا حتى سن الخامسة، أمّا بعد ذلك فهناك حاجة إلى مساعدة كل الأطفال، وليس فقط الذين يعانون من صعوبات، على تطوير قدراتهم اللّغويّة والقرائيّة المتقدّمة من خلال التّعليم الصّحيح (في سياق المدرسة) المبني على تطوير المهارات والمعالجة اللّغويّة وليس المعرفة اللّغويّة، وكذلك من خلال تشجيعهم على القراءة من أجل تطوير قدراتهم الذهنيّة والتّفكيريّة والمعرفيّة من خلال ذلك. غير أننّنا يجب أن نتذكر أن بين 3.5-7% من الأطفال لا يطورون تلك القدرات بنفس الدّرجة من السّهولة. هؤلاء بحاجة إلى الرّصد المبكّر من أجل تقديم المساعدة الموجّهه دون أي تاخير، لأن التأخر في التّدخّل المهنيّ الملائم يؤدّي الى تفاقم المشكلة وتعميق الصعوبات.
(أجرى الحوار: مندوب الموقد الثقافي)
[email protected]