فرضت إسرائيل الحكم العسكري (1948-1966) بعد النكبة التي ضربت الشعب الفلسطيني في العام 1948 على الأقلية العربية الفلسطينية (نحو مائة وخمسين ألفًا) التي تركزت في ثلاثة تجمعات أساسية لا تواصل جغرافيا بينها (الجليل والمثلث والنقب)، بالإضافة إلى التجمعات الصغيرة التي تبقت في ما عرف لاحقا بالمدن المختلطة كحيفا ويافا واللد والرملة وعكا.
وقال بروفيسور مصطفى كبها إنه ما مِن شك أنّ فترة الحكم العسكري لا تختلف كثيرًا عن السياسة الإسرائيلية التي نشهدها اليوم، مِن قبل الحكام الإسرائيليين الذين لم تختلف سياستهم العنصرية منذ فترة الحكم العسكري وحتى اليوم، وهناك دلائل كثيرة، فالحكم العسكري الذي فُرض على الفلسطينيين في الداخل، وما ارتكبته القيادات الإسرائيلية مِن جرائم ومجازر تجاه المواطنين العرب في البلاد كان هدفه الترهيب والتخويف ومن ثم إيجاد خيار واحد هو اللجوء بأعدادٍ هائلة تحت ضغطٍ وجرائم ارتكبها الإسرائيليون في العام 1948، وهكذا أتاح القادة في حينه، الفرصة أمام الفلسطينيين ليتركوا بيوتهم ووطنهم ليرحلوا ويغتربوا.
وأضاف أن الحكم العسكري هو نظام فرضته إسرائيل، بهدف منع الفلسطينيين اللاجئين من العودة لأراضيهم، والتحكم اللصيق بمن بقي من الفلسطينيين من خلال تقييد الحركة والنشاط والتنظيم السياسي وحرية التعبير والتحكم بمصادر الرزق والعيش، ومحاولة بناء قيادات تتعاون مع مؤسسات وأذرع الدولة لتسيير السياسة والتحكم بشكل التام بالأقلية العربية الفلسطينية التي بقيت في ديارها، أما بالنسبة للمجتمع العربي الفلسطيني داخل إسرائيل، فقد انصبّت السياسة الإسرائيلية على عملية استمرار لما كان في فترة الانتداب من خلال التفريق بين الطوائف على مبدأ فرق تسد، والتعامل مع المجتمع العربي كأقليات طائفية دينية وليس كشعب له طموحات وآمال وثقافة مختلفة. هذه السياسة التي كانت تنظر إلى المجتمع العربي كأنه طابور خامس أو قنبلة موقوتة، والتعامل معه بالرقابة اللصيقة وبسياسة قمعية تخدم سياسات خاصة بهذه الفترة، وأقلية كانت أغلبية، وهي فترة محاولة هضم واستيعاب النكبة بما فيها من هول وقسوة وشدة، الأمر الذي جعل هذه الأقلية تعيش تحت خوف وعدم استقرار وعدم التحكم بمصائرها، والأهم من ذلك التحكّم بلقمة العيش.
وأكد أن الفرضية الأساسية التي حرّكت نظام الحكم العسكري وآلياته هي النظر للمواطنين العرب على أنهم خطر أمني إستراتيجي داهم، أو أنهم قنبلة موقوتة أو طابور خامس أو مشكلة أمنية مزمنة. وهدف نشاط الحكم العسكري إلى التوصّل لحالة تقارب لإلغاء معاني المساواة العملية للمواطنة التي مُنحت للعرب، وإفراغها من معظم تبعاتها وأبعادها، ليتسنى إقصاؤهم عن جميع أجهزة الدولة اليهودية، وليسهل سياسة التمييز ضدهم في كافة المجالات، وتعميق التجزئة والتمزق والتشرذم في صفوفهم، من أجل منع تبلورهم في جماعة قومية.
وجاءت عملية إلغاء الحكم العسكري البطيئة بعد أن استخلصت المؤسسة الإسرائيلية العِبَر من حرب سيناء عام 1956 ومجزرة كفر قاسم التي عزّزت الوعي والإدراك أنّ الأقلية العربية لن تبادر إلى مغادرة البلاد.
إلى ذلك، شدد بروفيسور كبها على أنه صحيح أنّ نظام الحكم العسكري تم إلغاؤه في العام 1966، لكنّ موروثه من آليات العمل والسياسات والسلوكيات السلطوية تجاه المواطنين العرب ما زال يشكّل الأرض الصلبة لسياسة التمييز الصارخ بحق هؤلاء المواطنين، للمحاولات الدائبة لتهميشهم وتغييبهم ونزع الشرعية عنهم، بل ترحيلهم القسري من ديارهم الذي بات طرحا سياسيا متداولا في ردهات السياسة الإسرائيلية. اليهود وجهوا الشبان العرب للعمل خارج القرية، وكان يتم اختيار الشبان ذوي البنية الجسمانية القوية، لجلبهم إلى تل أبيب، على وجه الخصوص، بهدف بناء المدينة، هكذا جرى إبعاد الشبان عن قراهم وبيوتهم، واستغلالهم للعمل بالأجرة، كما أنّ الابتعاد عن الأرض كان يتوافق مع سياسة المصادرة تحت بند أراضي البور، فكلُ أرضٍ لا يتم العمل بها مدّة سنة كاملة كان باستطاعة وزير الزراعة أن يصادرها تحت هذا البند. وبهذه الطريقة تمّ مصادرة مئات الآلاف من الدونمات، فالابتعاد عن الأرض والزراعة هدفه تفكيك معنى أساسي من معاني الانتماء الوطني الفلسطيني، أي تفكيكه وإخراجه من معناه. هذه الفترة كانت عبارة عن محاولة استيعاب ما جرى في النكبة في ظل ظروف قمعية شديدة، جعلت الأقلية العربية تؤكد على شعورها بالخوف والاستهداف وما جرى في كفر قاسم يؤكد على هذه المخاوف، على اعتبار أنّ خطّة كفر قاسم، كانت خطة ترهيب من أجل تهجير من تبقى، هذا الشعور بالخوف وعدم الاستقرار والاستهداف ولّد الكثير من سلوكيات العمل تحت القمع، فحين كانوا بحاجة لعمال أبقوهم، وحيثما لم يكونوا بحاجة لعمال قاموا بتهجير الفلسطينيين، كما جرى في مصانع النسيج في المجدل، حيثُ أبقوا السكان بسبب الحاجة، وعندما انتهت المهمّة تمّ تهجيرهم، بعد عام 1948، وهناك مثال آخر، في يافا، فقد احتاجوا لأشخاص يشغِّلون مواتير الديزل في البيارات، وهنا تتضح الإجابة على سؤال مهم: لماذا أبقوا هؤلاء، ولم يتم تهجيرهم؟.
سياسة فرق تسد
يلخّص بروفيسور كبها واقع الفلسطينيين منذ العام 1948 وحتى العام 1966، أن هذه السياسة التي كانت وما زالت إحدى دعائمها، التعامل بمعايير مختلفة مع الطوائف المختلفة، مثلا نستطيع أن نرى في بعض القرى كيف تمّ الإبقاء على المقدسات المسيحية، إذ جرى المحافظة على الكنائس، بينما هدمت المساجد، مثلما جرى في صفورية على سبيل المثال، بينما تمّ إسقاط الحكم العسكري عن الدروز والشركس على أسس طائفية، بينما فُرضت عليهم الخدمة الإجبارية دون غيرهم، ما يعني أنّ التعامل كان مبنيًا على الطائفية ووفق معايير مختلفة وغير مُبرّرة.
البروفيسور مصطفى كبها
[email protected]