قال الكاتب إلياس جبور من مدينة شفاعمرو حول معاناة أهالي البلدات العربية من الحكم العسكري إن الجيش الإسرائيلي بدأ بعد احتلاله للبلدات العربية بترك فرق عسكرية صغيرة تتحكّم به وبسكانها، شكّلت فيما بعد ما يسمى بالحكم العسكري.
وأكد جبور أنه نظرًا لخطورة ما جرى في تلك الفترة فإنّ موضوع الحكم العسكري يحتاج من الدارسين والباحثين مزيدا من الدراسة المستفيضة الشاملة والتحليل العميق للمظالم العديدة التي ارتكبها الحكّام العسكريون بحق المواطنين العرب على مدى 18 عاما ذاقوا خلالها الأمرّين جراء تعسف هذه السياسة وهؤلاء الحكام، بل عينة صغيرة من المظالم الفادحة التي مارسها الحكم العسكري منذ أول أيامه، أقوم بتسجيل وتوثيق بعض وقائعها للتعريف بها، ببعض ما عاناه المواطنون العرب من فظائع وأهوال خلال هذه الحقبة الطويلة والمظلمة من الظلم والاستبداد والاضطهاد.
حدثنا عن فترة الحكم العسكري في شفاعمرو والمنطقة؟
لقد عايش والدي فترة الحكم العسكري، ووقف عند تفاصيل كثيرة تتعلّق بتلك الفترة العصيبة، خاصةً أنّ الوالد كان في حينه رئيسًا لبلدية شفاعمرو، وعُرف والدي جبور جبور بشخصيته الوطنية؛ وأحد المواقف للوالد أنه وقف أمام أهالي شفاعمرو ساعيًا لمنعهم من اللجوء للدول العربية، وأصرّ على بقاء كل شفاعمري في بيته، وعدم ترك البلاد للجيش الإسرائيلي وللمتآمرين على فلسطين.
ما هي الأساليب التي استعملها الحكم العسكري؟
كانت تلك الفترة صعبة ومقيتة وطويلة دامت 18 عاما، بطولها بدأت منذ اليوم الأول لإقامة دولة إسرائيل في العام 1948 وحتى انتهاء (وليس زوال) هذا الحكم في العام 1966 إذ لا زلنا نعاني من آثاره حتى اليوم، يصعب وصفها ويصعب تصوير كل أنواع المعاناة الشديدة والتعبير عنها بالكلمات، كانت بدون أدنى شك معاملة لا إنسانية بكل معنى الكلمة، لقد حدث كل ذلك في ظل دولة تدّعي الدمقراطية دون غيرها!
كان هذا الحكم البغيض يُطبق على المواطنين العرب لوحدهم، ولا ينطبق على السكان اليهود! كان يتم جلد المواطنين العرب بالسياط اللاذعة فقد جاء أول ما جاء حاملا معه أبشع أنواع الاضطهاد التي كانت المؤسسة الصهيونية قد تعلمتها وزادت عليها من موبقات الانتداب البريطاني الاستعماري ومارستها ضد المواطنين العرب، مِن منع تجول وعدم السماح لهم بالسفر خارج قراهم وفرض طوق عليهم، وكان يجري جمع السكان لساعات طويلة في الساحات العامة في حر الصيف دون شربة ماء وفي برد الشتاء وفي كثير من الأحيان بدون قضاء حاجة، وكان يتم مداهمة المنازل بوحشية لتفتيشها.
هل تذكر أخطر ما حمله الحكم العسكري؟
من أخطر ما قام به الحكم العسكري ترحيل المواطنين العرب الذين كان يُلقى القبض عليهم إلى ما وراء الحدود، تم ترحيل وتشريد الآلاف بل عشرات الآلاف من المواطنين العرب بهذه الطريقة والتي ما هي إلا نوع من أنواع التطهير العرقي وتصدّى له والدي رحمه الله، فقد اعترض بكل قوته على ترحيل أي مواطن من شفاعمرو وغيرها من البلدات، في بعض الأحيان كان يُلقي بنفسه أمام الشاحنات مما كان يضطرها لإنزال من فيها وخصوصًا من النساء والأطفال! وكان يُطلق في وجه الحكام العسكريين صرخته الشهيرة: إمّا أن نرحل كلنا وإما أن نبقى كلنا!
ومن السخرية بمكان أنهم اعتقلوا بعض الناس الأبرياء وأخذوهم أسرى حرب! منهم عامل موتور الماء الذي أصرّ والدي على إطلاق سراحه في الحال لشدّة حاجة الناس إلى مياه الشرب. وحاولوا إبعاد إمام البلدة فتصدّى لهم أيضا. وتباهى الحاكم العسكري قائلا: أين توجد دولة تُطلق سراح أسرى حرب!
وكان الحكام العسكريون وأعوانهم يتحكّمون بحياة العرب في البلاد وفي كل صغيرة وكبيرة من شؤونهم ما اضطر والدي لمواجهتهم، حسب ما يمليه عليه واجبه الوطني، فتحدى وتصدى للحكم العسكري بكل طاقاته النفسية والجسدية ووقف مع أبناء شعبه، معرِضًا نفسه للخطر وخصوصا في وجه موجات الترحيل والتشريد! وقرر أن يجابه ذلك الحكم. ورأى من واجبه أن يقف في وجه هذا الظلم مهما كلّفه من ثمن، ولم ينتظر طويلاً ولم يتردد بل قام بذلك منذ الساعات الأولى التي دخلت بها القوات اليهودية.
كانت هناك مشاكل عديدة للمواطنين بحاجة لحلول، فالمواطنون بحاجة يريدون البحث عن عمل يستطيعون بواسطته العيش الكريم بعد أن صادرت الدولة معظم أراضيهم الزراعية التي كانوا يعتاشون منها. وكانت الصدمة الأولى مع الحكم الجائر وهو يحد من حرية الناس في التنقل والسفر ويمنعهم من الخروج من بلدتهم لأي سبب كان دون التوجه إلى مكاتب الحكم العسكري والانتظار والوقوف في صفوف طويلة للحصول على تصريح خاص يسمح لهم بالسفر ولو ليوم واحد. وكانت القرى المجاورة تتبع لمكتب الحاكم في شفاعمرو ما زاد في عدد المتوجهين والواقفين في الدور. وكان الحصول على مثل هذه التصاريح في بداية الأمر صعبة! وعلى الطالب أن ينتظر ساعات بطولها وفي بعض الأحيان أياما وإن حصل على مثل هذا التصريح فلمدة زمنية قصيرة عليه أن يجدده كلما انتهت مدته.
كانت عملية شاقة عسيرة فيها الكثير من الإذلال والإهانة تتكرّر كلما احتاج الإنسان للسفر خارج حدود بلدته لأي سبب كان حتى لو كان من أجل العلاج الطبي! وكان عليه أن يواجه فظاظة بعض الحكام وأن يقف في وجههم ويتحداهم. وقد كان له معهم في كثير من الأحيان جدال ونقاش حامي الوطيس.
كان بعض الناس يتزلفون وينافقون للحكام العسكريين لينالوا مآربهم، أمام قسوة هذا الحكم، للحصول على لقمة العيش وحرم منها الكثيرون. وعاش الحكام العسكريون فترة ذهبية من حياتهم، فقد كانت تقدم لهم الولائم، ومعظمهم لا يستحق هذا الإكرام. وهناك قصص مخزية عن شراهة بعضهم ودناءة النفس.
كما طُرد بعض العمال بصورة انتقامية، ولعل أكثر وسائل العقاب شيوعًا كان قطع التصاريح عنهم فلا يستطيعون الخروج من قراهم فتنقطع أسباب رزقهم وبعضهم ذاق طعم النفي لأماكن بعيدة عن أماكن سكناهم لعدة أشهر وبعضهم لعدة سنوات! وذاقوا خلالها شظف العيش.
حرمان المواطنين من التصريح هدفه إذلال العرب!
وأكد جبور أن إسرائيل أقامت المحاكم العسكرية الصورية التي لم يكن للعدل وجود في كل قراراتها، لمحاكمة من يلقون القبض عليهم بدون تصاريح، ويحكمون عليهم بدفع غرامات باهظة جمعوا بواسطتها الملايين! كما دبّروا التهم الملفقة للكثيرين من الأبرياء ودخل البعض الآخر السجون الإسرائيلية لفترات طويلة! والقائمة كانت طويلة، وإن كان البعض لم تسمح له ظروفه الخاصة بتحمل هذا العذاب فخنع وخضع في سبيل لقمة العيش، إلا أن البعض الآخر كان قوي العزيمة، مضى حتى نهاية الشوط وتجرّع كأس المرارة!
ولعب الحكم العسكري أدوارًا خطيرة ومشبوهة في مصادرة الأراضي العربية والاستيلاء على منازل الغائبين وممتلكاتهم رغم وجود البعض من أهلهم في هذه البلاد ولم يغادروها. وجعلوا العملاء والمخبرين يحصون على الناس أنفاسهم وينقلون لهم المعلومات لفرض الضرائب الباهظة بناء على هذه المعلومات الكاذبة وخصوصا ضريبة الدخل الجائرة والمعكوسة وجبايتها من الفقراء بصورة تعسفية وخصوصا من الفلاحين البسطاء بدلا من الأغنياء! ومنعوا الفلاحين من الخروج لفلاحة أراضيهم، وكانوا يتفننون في تعذيب المواطنين. وكان رئيس البلدية قد أرسل العديد من رسائل الاحتجاج الشديدة اللهجة للوزراء والمديرين، لكن دون جدوى.
ومن أبرز مظالم الحكم العسكري تدخله الفظ والسافر في تعيين معلمي المدارس (ولا تزال آثار وبقايا هذا النظام قائمة حتى اليوم). كانت هناك مع انتهاء فترة الانتداب البريطاني طبقة لا بأس بها من الشباب المثقف ممن سمحت لهم الظروف بالحصول على تعليم ثانوي وكانوا بحاجة لعمل، وكان الباب الوحيد المفتوح أمامهم هو باب التعليم، لكن كيف الحصول على مثل هذه الوظيفة؟. كانت توضع أمامهم عدة شروط لا قِبل لهم بها وكانت تفتح أمام غيرهم الأبواب على مصراعيها فامتلأت المدارس بالمعلمين غير الأكفاء ما أدى إلى هبوط مستوى التعليم، هذا الهبوط الذي لا زلنا نعاني منه حتى هذا اليوم رغم كل المحاولات التي تدّعي سلطات المعارف بذلها لرفع مستوى العلم والتعليم العربي.
[email protected]