ما كنتُ محتاجًا لتأكيد حفيدي عليّ بن لؤيّ الشّابّ الصّغير ابن الخامسة عشرة عندما قال لي ونحن نشاهد مدينتنا الغالية، حيفانا الجميلة الرّائعة تشتعل النّيران في أشجارها وبيوتها: "لا يعقل أن يشعل عربيٌّ فلسطينيّ النّار بأشجار الكرمل أو بمدينة حيفا". وحينما سألته مستوضحًا: لماذا؟ أجاب بثقة: "هل يحرق الانسانُ بيته؟ وهل يحرق المرء وطنه وشجره وورده وزهره وطيوره وعصافيره؟" ولكنّ إجابته القاطعة زادتني يقينًا بأنّ أحفادنا ورثوا حبّ هذا الوطن كابرًا عن كابرٍ ورضعوا الإنسانيّة من أثداء أمّهاتهم فلا خوف عليهم.
هذه ليست المرّة الأولى في العقود الثّلاثة الأخيرة التي تحترق فيها أشجار الصّنوبر والسّنديان والبلّوط والعبهر والخرّوب وشجيرات القندول والبلان والميرميّة والزّعتر ونباتات العطر السّماويّ التي نمت وبسقت على وجنتي الكرمل وكتفيه وخاصرتيه ورأسه وعلى أنف الغزال وتشبّثت بالحياة في جنّة هذا الوطن التي وهبنا إيّاها الخالق البارئ، ولكنّها المرّة الأولى التي تصل فيها ألسنة النّيران إلى البيوت الجميلة والفيللات التّي تغازل القمر والحدائق التّي تتسامر والنّجوم.... وهذا ما زادني ألمًا ووجعًا.
كلّما إحترقت شجرة على الكرمل إتّهمونا،
وكلّما إشتعل جناحا طائر حرّضوا علينا،
وكلّما تلاعبت ألسنة اللهب في صنوبرة شيطنوننا كي يرسّخوا في الأذهان بأنّنا غرباء وأنّ هذا الوطن ليس لنا، وهذه الجبال ليست لنا، وهذه المدينة ليست لنا، وهذه الأشجار وهذه الأطيار وهذه الغزلان ليست لنا... لأنّها لو كانت لنا ما حرقناها!!
قد تكون الحرائق بفعل فاعل مجرم لعين وقد يكون عربيًّا أو يهوديًّا أو من قوميّة أخرى إلا أنّه من المؤكّد بأنّه ليس إنسانًا ويجب معاقبته عقابًا شديدًا... ولكنّ هذا لا يعني ولا يجوز أن يتّهم الإعلاميّون والسّياسيّون شعبًا كاملا.
ومهما كان، ومهما شيطنوا وحرَضوا واتّهموا تبق حيفا حيفانا، ويبق الكرمل كرملنا، وتبق الأشجار أشجارنا والأزهار أزهارنا والعصافير عصافيرنا، وتبق حيفا إلى الأبد مدينة المحبّة والتّآخي والتّعايش والجيرة الحسنة والجمال.
وسوف نبقى نحافظ على حيفا وكرملها ونوطّد علاقاتنا بجيراننا لأنّنا نحبّ الحياة ونحبّ الوطن ونحبّ حيفا.
وصباح الخير يا حيفا، وصباح الخير يا كرملُ، يا كرم الله!
[email protected]