فاجأني صديقي نزار الإنسان الطّيّب الدّمث الذي أنعم الله عليه ببسمة حلوة مثل اقحوانة في صباح نيسانيّ، تمرح على وجهه الحنطيّ باستمرار حتّى في أيّام الخماسين، وبجسم مثل جسد غزال لا يعرف السّمنة والتّرهّل، وصدمني عزيزي نزار حينما التقيت به قبل أيّام في أستوديو تلفزيون "مساواة" في بيت الصّداقة في النّاصرة.
أذهلني وفاجأني وصدمني حينما قال لي، "بلا شور وبلا دستور": ما عادت الحياة تطاق في هذه البلاد. نحن منذ سنوات نسير القهقرى. إلى الوراء دائما إلى الوراء. نحن شعب متخلّف ومتأخّر فَقَدَ القيم العربيّة الأصيلة، وابتعد عن الصّفات الإنسانيّة السّامية. الأمور فالتة سائبة والدّنيا داشرة. أسمعُ لعلعة الرّصاص في كلّ ليلة في أحياء المدينة وفي أزقّتها. أفلام رعب. أعمال العنف تتواتر وتزداد. سكاكين وخناجر ومسّدسّات وبنادق وعوزي وكلاشنكوف وصواريخ لاو. أجل صواريخ. هل تتصوّر؟ إلى أين وصلنا؟ الشّرفاء من أهل المدينة عاجزون عن علاج هذا الدّاء.. وعليّة القوم لا يفعلون شيئا. ورجال الشّرطة من الوحدة الخاصّة منتشرون في شوارع المدينة. لا يسمعون ولا يرون. يضايقون ويزعجون النّاس البسطاء فقط. ما عدت احتمل هذا الوضع. أمس قلتُ لابنتي: ليس لنا إلا كندا. أنا سوف أهاجر إلى كندا. أرجوك يا أخي، لا تلق ِ على مسمعي محاضرة في الوطنيّة. أنا رجل شبعان وطنيّة.. ومتخم بالقوميّة. لا ترتجل خطابا في البقاء والصّمود. صمدتُ خمسة عقود... وبعدين؟ هذه المحاضرات وهذه الخطبُ لا تسمن ولا تُغنى من جوع. صبرتُ وصمدتُ ولكنّ الأمور تسوء وتسوء!!
على مهلك يا نزار. الله يرضى عليك يا خيّا. الدّنيا حلوة. والحياة حلوة وبلادنا جملية وشعبنا طيّب. وأنت إنسان عصاميّ. هل تريد أن نغيّر لك هذا الشّعب؟ لا شعب على الكرة الأرضيّة أفضل من شعبنا، كما أنّ شعبنا ليس أفضل من أيّ شعب آخر. والنّاصرة جميلة بسوقها وعينها وحاراتها وأزّقتها وأشجارها وأزهارها وعصافيرها.. وطبعا بأهلها.. وبشعبها.. برجالها وبنسائها.. بفتيانها وبفتياتها وبأطفالها.. وبحرف الكاف النّصراويّ الذي فيه طعم كنافة البيت.
لمن تريد أن تترك شقائق النّعمان على جبل القفزة؟ ولمن ترغب بأن تهب المواويل النّصراويّة؟ ومن يرث ياسمينة البيت وزيتونة الوادي وما تقوله مداميك البيوت العتيقة في حارة الرّوم والحارة الشّرقيّة؟ وهل تستطيع أن تتنازل عن "صباح الخير يا جارنا نزار" تقولها لك الجّارة أُمّ أحمد أوالجّارة أُمّ الياس؟
أوتار العود وأنين النّاي وآهات الكمنجات وهديل الحمام وقفزات الدّوريّ وأجراس كنيسة البشارة وصوت الآذان من الجامع الأبيض وضحكات طلاب المدارس في الصّباح وزغاريد الأمّهات وفرح شقيقات العرسان ونزلوا النصراويّات عَ مرج أبن عامر يقولون لك :على مهلك يا نزار . الله يرضى عليك يا خيّا. هل تترك ااوطن للبرمان وبنيت؟ أهكذا أنشدنا طيلة سبعة عقود ؟ أهذا ما تعلّمناه ؟ هل تريد أن تزيد اللاجئين لاجئا آخر..؟ يا خيّا نزار . سوف نغيّر الدّنيا إلى الأجمل والأفضل.. حتما سوف نغيّرها . معا سوف نغيّرها. ونحن مصرّون على البقاء هنا. هذه الأرض لنا.. أمّا عليها وأمّا فيها .. ولا خيار آخر يا نزار !!
ولو..ولو..شو صار!!
[email protected]