موسكو، أو «الأم موسكو» كما يحلو لبعض سكانها أن يسمّوها، إنها عاصمة روسيا والمدينة الولاّدة لعظماءالأدب والفن الروسيين، فهي الأرض- الرحم التي شهدت على ولادة ألكسندر بوشكين، وفيودوردوستويفسكي، وحاضنة سمفونيات «بحيرة البجع»، و«الأميرة النائمة»، و«كسارة البندق»لتشايكوفسكي... والمفارقة أن جميعهم اختاروا بطرسبرغ مدينة مثواهم الأخير.
ومهما يكن من منافسة فريدة بين المدينتين الروسيتين، فإن موسكو لا تزال تحتفل بشعاع الشمس وهويلامس القباب المذهّبة فيها، ونساء يترجلن من السيارات الفخمة يقين برد خريف موسكو ببذخ معاطفالفرو، وكأنهن يستعدن حيوات دوقات ما قبل القرن الثامن عشر، وجند بلباسهم الموحّد يجولون في عرضعسكري وكأنهم يسيرون على وقع أغنية بوليوشكو بولي Polyushka Poley التي ألّف موسيقاها ليف نايبرLev Knipper وكتب كلماتها فيكتور كوسيف عام 1933 فكانت قصيدة مهداة إلى جند كوزمول.
وغنّت اللحن فيروز في أغنية «كانوا يا حبيبي، تلج وصهيل وخيل». وموسكو تائهة في هوّيتها، فهي لم تعدعاصمة القياصرة، وليست أيضًا عاصمة الشيوعيّة، ولكن هذا التيه في الهوية السياسية لم يبدّد هويتهاالتاريخية والثقافية. فهي استعادت لقبها عاصمة روسيا مع ثورة أكتوبر أو ما يعرف بالثورة البولشفية عام1917 بعد حوالى قرنين من إعلان بطرس الكبير عام 1712 بطرسبرغ عاصمة الإمبراطورية الروسية.
وإذا كان هذا هو حال موسكو راهنًا، فالسفر إلى هذه المدينة المستريحة على ضفتي نهر موسكاف، رحلةفي عوالم متناقضة بين نمط القياصرة المخملي، وتقشف الستالينية البارد، وتسارع إيقاع العصر وفوضاهالجميلة أحيانًا.
كل تفصيل في موسكو يذكرك بأنها جميلة ووفية لكلّ صفحات تاريخها: في الساحة الحمراء يستريح جثمانمؤسس الاتحاد السوفياتي المحنّط، وعلى بعد بضعة كيلومترات إرثه يجثم على دبابة قبالة البيت الأبيض،مستحضرًا سقوط هذه الدولة نفسها.
تعرّفي إلى وجه موسكو الثقافي بكل تفاصيله
تعرف موسكو بتنوّعها الإثني وثرائها الثقافي. وراهنًا تشهد زحمة نشاطات ثقافية، فعروض أوبرا تشايكوفسكي، ومسرحيات أنطون تشيخوف، من أجمل العروض الفنية وأرقاها في العالم، تجعلك تحلّقين في عالم الأميرات والقصص الخيالية، مع باليه أوبرا تشايكوفسكي لتجدي نفسك وجهًا لوجه مع صور قصص قرأتها وأنت طفلة وحلمت بأن تكوني جزءًا من عالمها.
فيما تطلقين العنان لضحكاتك وأنت تشاهدين عرضًا لإحدى مسرحيات تشيخوف بواقعيتها الساخرة. ورغم بذخ العروض وروعتها، فإن بطاقة الدخول تؤكد أن كل الناس يحق لهم الاستمتاع بها، فلا طبقية في الأسعار، بل ربما هي الأرخص في العالم. إنها روح البروليتاريا الساكنة في لا وعي موسكو.
ومن العروض الفنية المباشرة تنتقلين إلى المتاحف التي تكرّم عظماء روسيا، تجولين في غاليري تريتياكوف ومتحف بوشكين للفنون الجميلة الذي يحتوي على مجموعات من الفن الانطباعي الروسي ذي الشهرة العالمية.
ومع تحوّل روسيا القيصرية وروسيا الشيوعية إلى روسيا العصرية، ظهرت أشكال جديدة من الفن والترفيه... نادٍ ليلي في الطبقة السفلى أو معرض الطليعة في متحف الفن المعاصر. هذا الوجه البوهيمي يعطي لمحة عامة عن مستقبل روسيا، فهي أحيانًا بلد ثقافي ومثير، وأحيانًا أخرى فوضوي، ولكنه يبقى ساحرًا بكل هذه التناقضات.
الكرملين مهد موسكو
خلف الكرملين، رمز السلطة السياسية في روسيا، فإن هذه القلعة هي مهد موسكو. إذ لا يمكنك إلا أن تندهشي وتعجبي لموهبة كبار رسامي الأيقونات الروسية.
هنا تكتشفين الكنز الذي أطلق الثورة البولشفية، وأبكى واحدًا أو اثنين من قادتها، قبل التسلق نحو قمة ناقوس إيفان الكبير لتلتقطي أنفاسك أمام مشهد بانورامي مهيب لموسكو. عند خروجك من ساحة الكرملين، لا تفوّتي التقاط باقة زهور العرسان أو مشاهدة عرض حرّاس قبر الجندي المجهول.
الساحة الحمراء والتباس في أسباب التسمية
لا يمكن أحدًا أن يتردّد في اكتشاف الساحة الحمراء، التي غالبًا ما نظن أن اسمها ارتبط بالطوب الأحمر الذي شيّدت به الأبراج والأبنية المحيطة بها، ولكن الحقيقة عكس ذلك. فالترجمة الحقيقية للمعنى الروسي هي «الساحة الجميلة».
وفي اللغة الروسية القديمة تشير كراسني إلى الأحمر والجميل. وقد أطلقت هذه التسمية في البداية على كاتدرائية باسيل المبارك. أما الساحة نفسها فقد سمّيت بوجار Pojar وتعني «في الحريق»، حتى القرن السابع عشر في إشارة إلى أن تشييد هذه الساحة سببه الحريق الكبير الذي اجتاح موسكو عام 1493 عندها قرر إيفان الثالث هدم كل المباني المشيّدة من الخشب وتشييد أبنية من الطوب تفاديًا لأي حريق جديد تتعرّض له موسكو، وكان الطوب أحمر، ومن وقتها سمّيت الساحة الحمراء.
علمًا أن هناك مدنًا روسية قديمة تضم ساحات حمراء شيّدت للسبب نفسه لساحة موسكو الحمراء، من هذه المدن، سوزدال ليلتس Souzdal lelets وبيرسلافل زاليسكي Pereslavl-Zalesski.
تأخذك الأبراج المهيبة والأسوار الشاهقة وكاتدرائية باسيل المبارك، مع ظلال ألوانها الجريئة والحيوية، والواجهة المزخرفة، وكذلك متحف أوغوست إلى عالم القياصرة المخملي الذي ارتبط بالأحمر، فكل زاوية وفسحة شيّدت بالطوب الأحمر، حتى أرض الساحة مرصوفة بالحجارة الحمراء. وعند المساء سوف تدهشك إنارة هذه المعالم التي تأخذك إلى عوالم ترسمين صورها بحرية في مخيلتك.
مترو الأنفاق محطة انتظار في عالم القياصرة
يكشف مترو أنفاق موسكو المراهنة على سيرورة التاريخ، فهو متحف الفن والبراعة التكنولوجية للقرنين العشرين والواحد والعشرين. هنا تزاوج العصر الحديث والتاريخ بشكل رائع. فتفاصيل المحطة تضج بالهندسة المعمارية التي تعكس ترف المخيلة.
فأعمدة محطة الانتظار الرخامية وقبّتها الصفراء، وجدارياتها الفسيفسائية، وثرياتها تمنح الناس المنتظرين في حضنها الإحساس بأنهم يجولون في أحد القصور الباروكية لعهد القياصرة.
فيما اللوحات التي تجتاح جدران المحطة مستوحاة من خطاب ستالين عام 1941 خلال استعراض الجيش الأحمر، فهي تعكس قوة الجند، والساعات العظيمة «للقتال من أجل الحريّة» في الاتحاد السوفياتي السابق.
الإبحار في نهر موسكوفا سحر يطفو على وجه الماء
إذا كانت موسكو تدهشك أثناء التجول على أرضها الصلبة، فإنها من المؤكد ستدوّخك إذا ما جلت فيها على متن عبّارة تبحر في نهر موسكوفا الذي يخترقها. فأثناء الإبحار ستشعرين بدوار الدهشة، وأنت تتأملين موسكو وموسكوفا يعبّان من جمال بعضهما بعضًا.
تخيّلي كل هذه الأبنية الرائعة يرسمها النهر على صفحة مياهه بكل هدوء، تظنين لساعة ونصف ساعة أنك في إحدى القصص الخيالية، وربما إحدى بجعات سمفونية «بحيرة البجع»... لمَ لا! يحق لمخيلتك ما لا يحق لغيرها، ولكنك تبحرين في النهر، لتؤخذي بروائع تحدثك بصمت عن تاريخ موسكو القيصري، فتعبرين بالقرب من دير نوفوديفتشيNovodevitchi ومتنزه غوركي وكاتدرائية المخلص، وقلعة الكرملين ودير نوفوسباسكي Novospaski.
التسوق في سوق إسماعيلوف Izmailovo دخول في عالم القرون الوسطى
اكتشفي الزوايا الأقل شهرة في موسكو خلال جولة على القدمين تستغرق ثلاث ساعة في حي إسماعيلوف القديم، وهو جزء من تاريخ موسكو كان في ما مضى موطن أجداد عائلة رومانوف النبيلة. يعود تاريخ هذا الحي إلى عام 1389ولكن لم يُلحق بموسكو إلا عام 1935.
اعبري الجسر واخترقي البوّابة لتجدي نفسك وسط عالم القرون الوسطى، هنا تختلط القصص الخيالية بالواقع، فقد شيّد حديثًا على شكل قلعة روسية بنمط القرون الوسطى، وبجواره قصر الزواج وكنيسة من الخشب، كل هذا جعل من السوق الموجود في قلب موسكو نموذجًا وهميًا للكرملين.
فهنا كنائس شُيّدت بالخشب، وأسوار طليت بالأبيض، وبوتيكات لبيع التذكارات! بالطبع لا يمكنك أن تفوتي شراء الدمية الروسية. كما في الماضي فالأكشاك التي تزنّر هذا الكرملين الوهمي، تعرض المشغولات اليدوية التقليدية، والتحف الفنية والأنتيك، والسجاد القوقازي الذي يستورد من آسيا الوسط.
حمامات ساندوني Sandouny استرخاء بأسلوب موسكو
من منا لا تحلم بساعة استرخاء أثناء السفر، ساعة تشحنها بالمزيد من الطاقة لتستوعب جمال المدينة التي تزورها، وتكشف عن كل ما تخفيه من روائع؟ وجلسة الاسترخاء في حمامات ساندوني الأقدم في موسكو تدخلك في عالم الدوقات والأميرات حيث كل جناح فيه يخبرك بأنك ستدخلين في متاهة الحياة المخملية.
في حمامات ساندوني تغوصين في أبخرة تجدد خلايا بشرتك وتخلصك من اجهاد التجوال المدني، ولكن من المؤكد لن تخلصك من الصور التي حفظتها ذاكرتك، بل ربما الرخاء في العناية قد يضيف صورًا أخرى، لأنك قد تتقمصين حياة الأميرات، وتدخلين لعبة العناية بجمالهن لتوقظك بعض ضربات أغصان البتولا الصغيرة، فتنشّط دورتك الدموية، وتحيي وجودك في الواقع.
معلومة عن سكان موسكو
يعلّق سكان موسكو أهمية كبرى على مظهرهم الخارجي، فمعظمهم يحاول جاهدًا العناية بطريقة اختيار ملابسه، وإن كان يجول سيرًا على القدمين. فإذا قررت تناول العشاء، عليك ارتداء فستان فاخر وانتعال حذاء بكعب عالٍ، وتجنبي قدر المستطاع الحذاء الرياضي وسروال الجينز.
أما للجولة السياحية فارتدي حذاء للمشي، ويجدر أن يكون أنيقًا، وتسلحي بمظلة وبمعطف واق من المطر. وفي الشتاء ارتدي طبقات عدة، من الثياب الدافئة، الكنزة والمعطف والقبعة التي تحمي الأذنين ولا يمكن الاستغناء عنهما، وتذكري دائمًا أن تتركي القبعة والمعطف في خزانة الأمانات الموجودة عند مدخل المطعم أو المتحف. فهذا طقس يجب التقيّد به في موسكو.
Sbiten الشراب الروسي الدافئ الذي يقوي جهاز المناعة
إذا زرت موسكو في فصل الخريف أو الشتاء فلا تترددي في احتساء شراب سبيتن، المعروف منذ القرن الثاني عشر، لاتقاء برد الشتاء الروسي ولديه مفاعيل علاجية مهمة. ويتم إعداده من طريق غلي الماء الممزوج بالعسل ومربّى التوت، والتوابل المطحونة وغالبا القرنفل أو الزعتر في «السماوفار» وهو إناء من النحاس معروف في روسيا. لهذا الشراب فوائد صحية فهو يعزّز جهاز المناعة ويقويه وينشّط الذاكرة. وفي الصيف يشربه الروس مثلجًا.
[email protected]