من مفارقات التاريخ الإنساني أنه مهما بدّل صفحاته وغيّر شخصياته، لا يستطيع أن يغيّر تراكم جغرافيا الأمكنة وطبيعتها، بل يبقى مندسًا بين أحافيرها. فبعد تهاوي جدار برلين عام ١٩٨٩، رمز تقسيم أوروبا، تبعه تهاوي الأنظمة الشيوعية، ولم يبقَ منها إلا فتات أحداث لتاريخ تحاول ذاكرة الشعوب محوه. وكرواتيا هي أحد البلدان الجميلة التي استعادت ألقها الخاص بها وحدها بعد انفصالها عن يوغوسلافيا الشيوعية و بعدما كانت واجهتها البحرية، تتأمل البحر الأدرياتيكي الذي يتكسّر زبده على صخور شاطئها أحيانًا أو يختار التغلغل في حصاه أو الذوبان في رماله. فلا عجب أن يطلق عليها اسم «لؤلؤة البحر الأدرياتيكي».
وسحر كرواتيا يختبئ في مدنها العتيقة التي تحتفظ بأطلال رومانية في مدينة سبليت أو بمعالم قرون الوسطى في مدينة دوبروفنيك.
في دوبروفنيك أطول الأسوار التاريخية
يسكن سحر دوبروفنيك منذ عام ١٣٠٠ في المدينة العتيقة ستاري غراد حيث تأخذك ساحة من الرخام وشوارع مرصوفة وبيوت جميلة شيدت بالحجر الأبيض وأديرة وقصور وينابيع ومتاحف إلى عالم كرواتي يستلقي عند أقصى جنوب ساحل بحر الأدرياتيكي. تتمتع المدينة بطبيعة خلابة ومناخ رائع جعلاها مقصد السياح من كل أنحاء العالم .
تملك دوبروفنيك سحراً لا يضاهى، فالتنزه سيراً على القدمين، لاسيما في منطقة لا بلاسا التي تمتد من محطة الباصات الواقعة خلف بوابة بيل حتى برج الساعة الواقف عند أقصى الجهة الأخرى للمدينة، يأخذك في رحلة إلى التاريخ المتناثر بين صفحات المدينة يقف بأبهة لا تعرف الشحوب. عند اختراق البوابة تمر بدير الفرنسيسكان حيث تقع صيدلية تعود إلى عام ١٣٩١، وعند القمة المواجهة لبلاسا تقع كنيسة القديس سانت بلاز، وهي معلم رائع شيد على النمط الباروكي الإيطالي، وقربها قصر مدير المعهد الديني الذي بني على النمط القوطي عام ١٤٤١، وتحوّل إلى متحف يضم أثاثاً ولوحات باروكية ومعروضات تاريخية.
تضم المدينة أسواراً شيدت خلال القرنين الثالث عشر والسادس عشر، يبلغ طولها كيلومترين وتضم ١٦ برجاً، يكفي الصعود إليها للاستمتاع بمناظر عز نظيرها في العالم، فكأنما السحر فيها هبط من السماء، فلا عجب أن يكون فاوست فرانيك (١٥٥١-١٦٦٧ ) الكرواتي الذي عرف في إيطاليا باسم فيرانزيو هو أول من درس أثر الريح في قماش المظلة فرسم المظلة الهوائية التي عرفت باسم هومو فولنز عام ١٦١٥.
وتعتبر المدينة العتيقة في دوبروفنيك ملاذ هواة التسوّق، إذ تتجاور المتاجر والغاليريات التي تعرض الأعمال الفنية على طول الشارع الرئيسي فيها، بينما تعتبر الشوارع والأزقة الضيقة فيها معقل البوتيكات و المتاجر الصغيرة التي تعرض كل أنواع التذكارات والأعمال الفخارية والجلدية والمجوهرات، والسجاد والمشغولات اليدوية المصنوعة من الخشب والسيراميك. لكي تمضي إجازة غير مكلفة في دوبروفنيك يمكنك استئجار غرفة في أحد بيوت سكان المدينة مما يتيح لك فرصة التعرف إلى عاداتهم وتقاليدهم.
سبليت وكل المجد الروماني
على مسافة ١٥٠ كيلومترًا شمال دوبرفنيك تقع مدينة سبليت أكبر مدن كرواتيا على الساحل الأدرياتيكي وثانية المدن بعد العاصمة زغرب، نالت مجدها في القرن الرابع عندما شيّد الإمبراطور الروماني ديوكليتيان قصره. وفي القرن السابع طردت عشائر البربر المستعمرين الرومان الذي اختبأوا داخل أسوار القصر. ورغم نمو سبليت الصناعي تحتفظ بمدينة عتيقة تنضح بالسحر والجو اللاتيني. باختصار لن يكون لدى الزائر وقت فراغ ليشعر بالملل في سبليت.
يعتبر قصر ديوكليتيان حصنًا يضم سورًا بطول ٢١٥ مترًا، تجاوره المعابد والأضرحة. يدهش زائر القصر ببهوه الرحب، وفنائه ذي الأعمدة الضخمة ومعبد جوبيتر. وتحوّلت أطلال ضريح ديوكليتيان إلى كاتدرائية. قد يستغرق التجوال في هذا القسم من المدينة ساعات، فهو أشبه بمتحف في الهواء الطلق تغلّفه السماء بهمسات الماضي وسط صخب الحياة المعاصرة.وعلى مقربة منه متحف الأركيولوجيا، حيث انتشرت مجموعات من معروضاته في الحدائق التي تحيطه. وفي غاليري ميستروفيتش منحوتات رائعة من أعمال هذا النّحات.
أما هواة البحر والاسترخاء ففي إمكانهم على شاطئ باشيفتش إطلاق العنان لنسائم البحر الأدرياتيكي تداعب مخيلتهم أثناء تأملهم الموج وهو يذوب بين ثغرات حصاه البيضاء، يراقبون غروب الشمس الأرجواني كأنه ريشة ألوان تغوص في كواليس الحضارة الأوروبية التي ذابت فيها أدوار كرواتيا بين النصوص المقروءة وسطورها المتقاطعة، لتعيد رسم التاريخ كما تريد.
[email protected]