يُعد مفهوم رأس المال الثقافي أحد المفاهيم المركزيّة في علم الاجتماع. وقد طوّره عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو لفهم العلاقات بين الثقافة وبين السُلطة والهيمنة الاجتماعيّة. يُعرّف رأس المال الثقافي بأنه الموارد الثقافيّة التي يمتلكها الأفراد أو المجموعات وتتّخذ أشكالًا عدّة، مثل المعرفة والعلاقات الاجتماعية والمهارات والمؤهّلات التعليميّة والرموز الثقافيّة التي تُعتبر قيّمة في مجتمع معين. وفقًا لبورديو، يتمّ تحديد قيمة رأس المال الثقافيّ بناءً على علاقته برأس المال الاقتصاديّ والاجتماعيّ، ومدى انسجامه مع "رأس المال المُسيطر"، وهو رأس المال الذي تُعزّزه الطبقات المُهيمنة لتحديد معايير "الثقافة الرفيعة". يدّعي بيير بورديو ان الطبقات المُهيمنة تقوم بتحديد القيَم الثقافيّة المُهيْمنة لما يمكن اعتباره "مقبولًا" أو "رفيعًا". وتقوم بذلك بفرض سيطرتها على مناحي الحياة المتعدّدة وتستغلّ الرأسمال للحفاظ على مصالحها وإنتاجها من جديد.
رأس المال الثقافيّ ليس محايدًا أو متساويًا، بل يخضع لهيمنة مَن يمتلك السُلطة الاجتماعيّة والاقتصاديّة. ضمن هذه الديناميكيّة، يتمّ تصنيف الثقافات إلى "مُسيطِرَة"((Dominant و"غير مسيطرة" (Non-Dominant)، بحيث يتمّ تهميش الثقافات غير المسيطِرة واعتبارها "أقلّ قيمة". يتحوّل رأس المال الثقافيّ في المجتمعات التي تشهد انقسامات قوميّة أوعرقيّة أوإثنيّة مفهومًا أساسيًا لتحليل الديناميكيات الاجتماعيّة والسياسيّة بين المجموعات المتنازعة. بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل، يشكّل رأس المال الثقافيّ الخاص بهم ـ من لغة وتراث وتقاليد ـ رأس مال غير مُسيطر يُواجه تهميشًا مستمرًّا من المؤسّسة الإسرائيليّة وأذرعها، التي تُعزّز بالمقابل القيم والثقافة اليهوديّة باعتبارها "المعيار".
على الرغم من هذا التهميش، فإن رأس المال الثقافيّ الفلسطينيّ يُعدّ مصدرًا رئيسيًّا للهويّة والمقاومة، حيث يستخدمه الفلسطينيون للحفاظ على هويّتهم وتعزيز وجودهم في مواجهة سياسات
الإقصاء والهيمنة. في هذا السياق، يمكننا تسليط الضوء على أهمّية تحليل تارا روسو الذي يبرز الأشكال المختلفة لرأس المال غير المُسيطِر، وتطبيقه لفهم التحدّيات التي يواجهها الفلسطينيون في إسرائيل، وكذلك الطرق التي يعيدون من خلالها تعريف علاقتهم بالثقافة المُهيمِنة.
يهدف المقال إلى استكشاف هذه العلاقة من خلال تحليل أنواع رأس المال غير المسيطر التي حدّدتها روسو ـ مثل رأس المال اللغويّ، الاجتماعي، المقاوم ـ وكيف تُستخدم هذه الأشكال كوسائل للبقاء والمقاومة الثقافيّة ضمن واقع هيمنة رأس المال الثقافيّ المسيطر الإسرائيلي.
في سياق الفلسطينيين في إسرائيل، يتقاطع تهميش رأس المال الثقافيّ الخاص بهم مع ديناميكيات الهيمنة اليهودية ـ الإسرائيلية، التي تبذل جهدًا بيّنًا لتشكيل علاقة الفلسطينيين بثقافتهم. في هذا السياق، يمكن الاستفادة من تحليل تارا روسو حول أنواع رأس المال غير المُسيطِر لقراءة تجربة الفلسطينيين هنا.
تُشير تارا روسو في تحليلها إلى ستة أنواع أساسية لرأس المال غير المُسيطر، وهي أدوات ثقافيّة ومعرفيّة ومقدّرات تُستخدم للمقاومة أو لتحدّي الهياكل المُسيطِرة: رأس المال "الطموحيّ" ((Aspirational Capital، وهو القدرة على الحفاظ على الأمل رغم الأوضاع الصعبة الناتجة عن القهر والإقصاء، والقدرة على إنتاج الطموحات والأحلام والمشاريع المستقبليّة لدى الأفراد والمجموعات على الرغم من السياسات العنصريّة والإقصائيّة التي تسعى إلى إضعاف الجماعة. رأس المال اللغويّ، وهو القدرة على التنقل بين اللغات واللهجات المختلفة وإتقانها، والحفاظ على لغة الأم والإنتاج والابداع فيها رغم واقع لغويّ غير مُتكافئ ورغم واقع يقوم على إضعاف لغة الأم من خلال سياسات لغويّة ممنهجة. رأس المال العائليّ، وهي المعارف الثقافيّة الناتجة عن العائلة النوويّة أو العائلة الموسّعة والتي تنطوي على الحسّ بتاريخ الجماعة وذاكرتها وروايتها. ويؤدّي هذا الشكل من رأس المال الثقافيّ إلى الالتزام برفاهيّة المجتمع وتوسيع مفهوم الأسرة ليشمل فهمًا أوسع لعلاقات القرابة، مطوّرا الحسّ بالمسؤولية اتجاه الجماعة واستخدام العلاقات الأسرّية والقيَم الاجتماعيّة لتعزيز التضامن والدعم للأفراد وللجماعة. يقدم هذا النموذج للأفراد دروسًا في الرعاية والعطاء ويشكّل وعيهم العاطفيّ والأخلاقيّ. رأس المال الاجتماعيّ، وهو بناء شبكات دعم داخليّة توفّر الحماية والفرص والتعاضد الاجتماعيّ. يمكن فهم رأس المال الاجتماعيّ باعتباره شبكات الاتصالات الاجتماعيّة التي توفر الدعم العمليّ والعاطفيّ للتنقل عبر محطّات الحياة المختلفة. رأس المال المُقاوِم (Resistant Capital)، وهو التمسّك بالثقافة والتراث كوسيلة لمقاومة التهميش وإنتاج ثقافة تعتمد على خصوصيّة المجموعة ومرتبطة بتاريخها وروايتها، واستخدام المعرفة الموروثة أو المكتسبة لتعزيز البقاء والمقاومة. يشير رأس المال المقاوم إلى تلك المعارف والمهارات التي يتمّ تعزيزها من خلال السلوك المعارض الذي يتحدّى غياب المساواة. رأس المال التنقّليّ (Navigational Capital)، وهي مهارات التنقل بين السياقات الاجتماعيّة والثقافيّة المختلفة، والقدرة على المناورة والتدبّر في سياقات وأماكن تمتاز بالعنصريّة وتُدار وفق معايير الثقافة المُهيمنة. ومنها على سبيل المثال المعاهد الأكاديميّة أو أماكن العمل ذات الطابع اليهوديّ، مثل المستشفيات التي تعمل وتُدار ضمن هيمنة ثقافة المجموعة المسيطرة، ولو كانت نسبة العاملين الفلسطينيين فيها كبيرة وأشغل الفلسطينيون فيها مناصب إداريّة عليا. الرأس مال التنقّليّ يعكس الطاقات الفرديّة لدى الأشخاص وقدرتهم على تحدّي المعيقات البنيوية وتخطيها.
هذا المورد من الرأس مال الثقافيّ كما فصّلته روسو يمثّل شكلاً من أشكال المقاومة الناعمة التي تسعى إلى تفكيك الهيمنة السائدة التي قد تتراوح بين سياسات قهر واقصاء وعنف خشن، كما نراه اليوم. ولعل أهم ما تطرحه هذه الأشكال من رأس المال انها لا تساعد فقط في التنقل والتغلّب على القمع البنيوي، بل تشكّل، أيضًا، آليّة فعّالة وموارد تتحدّى المجموعات المُستضعفة بواسطتها وتقاوم سياسات الهيمنة وتعيد بناء نفسها وهويّتها وسرديّتها الجمعيّة في حفظ بقائها وكرامتها.
*د. دالية حلبي، محاضرة في التربية. أعدّت أطروحة الدكتوراة في تقصّي سُبل تكريس النُخب لسيطرتها من خلال جهاز التربية والتعليم من خلال توظيف الرأسمال الثقافيّ. درست باستفاضة تجارب المدارس الأهليّة عندنا. نُشرت مقالاتها العلميّة في مجلّات علميّة محكّمة مرموقة.
تصوير: علامات للإنتاج
[email protected]